كلمة
كنت في سابق عهدي أعتقد أن فصل الشتاء لا يمر إلا على الفقراء ، فكيف نزعم نحن - عامة الناس- أننا عرفنا فصل الشتاء و قد كنا أبعد كل البعد من الإحساس بالبرودة و الجوع و المعاناة ؟ نعيش تحت أسقف آمنة ، لدينا دائماً ملابس دافئة نرتديها ، و مشروبات ساخنة نحتسيها ، و مدافئ تعيننا على تحمل البرد ، و كتب تعيننا على تحمل الليالي الطويلة ، كيف لقوم مثلنا أن يدعوا معرفتهم بهذا الموسم الذي لا يتذوقون منه شيئاً و لا يفقهون منه إلا بياض ثلوجه ؟
و لكني بعد تفكير عميق أدركت أن فصل الشتاء قد لا يكون مجرد موسم يصيب الأبدان ، أو ابتلاء يختص به الفقراء ، إن الشتاء إحساس و حالة نفسية عند بعض البشر ، لا يجدون عنها مهرباً ، و لا تستريح منها نفوسهم ، و يظلون في عذاب دائم يجتاحهم و يخنقهم بسبب هذه الحالة الفظيعة ، و ربما يجدون برد الأبدان أهون و ألطف من برد الأرواح الذي يلازمهم ، إن هؤلاء الناس مساجين و لا يجدون بديلاً عن هذا السجن الذي يعيشونه إلا أن يموتوا . .
و لعلي أدركت أيضاً أن شتاء المرء يزداد توحشاً كلما اتسعت الفجوة التي تفصله عن نفسه ، و ابتعد في تصنعه عن جوهره و حقيقته ، و قد يصل إلى مرحلة يشعر فيها أنه مجرد ممثل ، يخفي داخله ما لا يظهر ، يرسم بسمة و حقيقته عابسة ، و يدعي ضحكة و قلبه يود لو يبكي ، و يعيش بين الناس في خوف من أن يظهر بهيئته الحقيقية ، و ربما يخشى مجرد أن يرفع صوته و يبدي رأياً ؛ لأنه جبان و حساس ، لا يحتمل طعنات الناس و قسوتهم ، فيفضل ألا يعيش خوفاً من الحياة ، إن من يصل به الأمر لهذا الحد لا يمكن أن توصف حياته إلا بأنها باردة مثل ثلوج الشتاء .
و هناك شتاء آخر يحس به الإنسان الذي حرم من المشاعر الدافئة في حياته ، و لم يجد ما يعينه على قسوة الحياة إلا أن يجمد قلبه ، و يعيش معزولاً بنفسه ، لا يرجو لطفاً من أحد ، و لا ينتظر كلمة حانية أو ابتسامة أو عناقاً ، فقد تعرض في حياته لصدمات جعلته يخشى أن يكون إنساناً . لا سيما إن كان بعيداً عن الله ، و لا يجد سبيلاً ميسرة لإزالة الجليد الذي يغطي قلبه و تذوق حلاوة و دفء الإيمان ، كم هي حياة تعيسة ! و ما أتعس من جمع بين كل تلك الشتاءات
تعليقات
إرسال تعليق