رقصة البوتاسيوم
في العام الذي بلغت فيه تسعة عشر عاماً ، شعرت بنور الفجر الضعيف يتسلل منبثقاً من بين فتحات الغيوم التي كانت تغطي السماء ، و يختزل الظلام و يتراقص ببهجة فوق الركام ، و الهدوء القاتل . عاودني الأمل من جديد ، بعد أن لبثت عامين أشعر بالجمود و الإحباط ، و أنا أراقب الأحلام من حولي تتداعى ، و أشهد الحرب من بعيد و هي تدمر وطني و تخرب بوحشية بستان طفولتي المقدس في قلبي ، دون أن أقوى على شيء . و سألت نفسي بانكسار ، و أنا أرى الفتيان و الفتيات يكفنون أحلامهم بأيديهم و يدفنونها ، حتى أصبحت الأرض مقبرة للأحلام : هل هذا هو الشباب ؟
عمر الزهور عبارة أسمعتها لكنني لم ألقها تلك الزهور
العيب بي أم أنها وهم كما قالوا عن الأيام تأتي بالحبور
- مريم صلاح النعيم -
و خطر ببالي كل من ولدوا في تلك السنة التي ولدت فيها ، و في الأرض التي أنبتتني ، فشعرت بأوجاعهم كأنهم يشاركونني كياناً واحداً . لقد كانت أول هدية يحصلون عليها جميعاً في عيد ميلادهم الثامن عشر هي تحطيم صروح أحلامهم فوق رؤوسهم . و لكنهم رغم ذلك رفضوا أن يستسلموا لليأس و يزهدوا في الحياة . تقدم هذا الجيل الصامد رغم كل الجروح التي أصابته ، و كل الجمود و الخيبات التي فاجأته في فجر شبابه ، ليقفز إلى معترك الحياة، يفور بعنف و يطلق شراراً بنفسجياً يشبه لون الشغف و لون الحلم ، و يقاوم الخيبة بتفاعله العنيف و روحه القوية رغم غضاضة سنه ، كأنه عنصر البوتاسيوم ، و قد علق بي هذا التصور كثيراً و شعرت بشبح هذا العنصر مثل كيان أو تجسيم لما يحس به كل شاب استقبلته الحرب و الخيبات في أول شبابه ، و تصورت الماء مثل الحياة التي يلامسها البوتاسيوم للمرة الأولى و يقاوم برودها و جمودها بحرارة شغفه و رغبته المتقدة ، و حين يقذف بالبوتاسيوم في الماء ، يحدث انفجاراً و ضجة عنيفة ، كأنها صرخة شجاعة يهتف بها :
أيها الحزن ، أيتها الحرب ، أيتها الحياة ، أنتم لن تسرقوا مني الأمل ، و لن تحرموني من الإحساس بالجمال ، و لن تسلبوني أحلامي ، فأنا زهرة الشباب.
رقصة البوتاسيوم
تعليقات
إرسال تعليق