أجنحة ضامرة

  تساءلت : أي نوع من المخلوقات ما أصبحت عليه الآن ؟ روبوت جامد بلا إحساس ، آلة ميكانيكية ، أو فقط كائن مثقل بهموم جافة تطغى على مزاجه ، و تجمد رغبته في أي شيء آخر؟  لطالما كنت أحيا في السماء ، و ليس جسدي سوى صورة مجسمة تملأ فراغي في الأرض ، عشت حياة فريدة ، امتلكت القدرة على الحديث مع الحيوانات ، و سماع همسات الأشجار ، و رؤية أناس لا وجود لهم على أرض الواقع. 

و حين كنت أرقد على مكتبي و أراقب الجدول الدوري ، لا أرى رموزاً ، بل رؤوساً تطل من الشبابيك ، أسمع أصواتهم  ، و أتخيل ما يدور بينهم من تفاعلات ، و لكن على طريقتي الخاصة . و فجأة ، لم أعد أسمع شيئاً أو أتخيل شيئاً ، لم أعد أفهم حديث الحيوانات أو همسات الأشجار ، و الرموز غدت مجرد رموز ، لم أعد أذوب حباً في أي شيء .

ثم أدركت أن شيئاً فظيعاً قد حل بي ، إني أعيش على الأرض و أرى الدنيا بنظرة فيزيائية بحتة ، أفكر في مصالحي و همومي ، و أنشغل بما قد ينشغل به طالب مقبل على الجامعة . ما عدت أجد الوقت للتحليق في الفضاء الرحب ، و الإنسان حين يكون مجرد إنسان ، و يعيش في حدوده الفيزيائية و لا يخرج من دائرة مصالحه ، فهو يصبح آلة و لا تكتمل له إنسانية.

و حين أفقت ذات صباح فجأة ، خطر ببالي أن أقف أمام المرآة ، فنالني عظيم الدهشة مما أبصرته ! كان جسداً حديدياً تقريباً ، لا يوجد ما يدل على أنني بشر . هل تحولت إلى آلة ؟ و حينها أمطرتني نفسي بأسئلة لوم و عتاب : متى آخر مرة كتبت فيها قصيدة؟ متى قرأت كتاباً جيداً ؟ متى أعطيت نفسك للفكر و الفن ؟  و لم أستطع أن أجيب عن ذلك إجابات واضحة.

ثم تساءلت : أي نوع من المخلوقات ما أصبحت عليه الآن ؟ تأملت في المرآة أكثر ، فتبينت لي صورتي بشكل أعمق ، آلة بالفعل ، تدرس و تمتحن ، ثم تدرس و تمتحن ، و تتكرر هذه الحلقة دون انقطاع ، و حتى بعد تخرجي من الثانوية ، حين ظننت أنه قد تم إطلاق سراحي أخيراً ، لم أجد في نفسي القدرة على الطيران . لم تعد أجنحتي تعمل إذ تجاهلتها فترات طويلة ، و بت أحاول الطيران فلا أستطيع إلا قفزات يائسة ، إنني لم أقرأ ذلك العدد الهائل من الكتب الذي تصورت أنني على صدد قراءته في العطلة ، و لم أعد حقيقة لأي شيء ذي بال . أنهض صباحاً و أتابع أخبار الجامعات و التقديم ، و أتذمر لأنه لم يتم قبولي في أي جامعة بعد ، و أعود من جديد لتفقد أخبار الجامعات و التذمر ، و هكذا دخلت في حلقة جديدة . 

لقد فقدت أجنحتي ، هذا ما سلمت به تماماً ، و أنا أتطلع لاستعادة تلك الأجنحة ، أبحث عنها في السماء بعيني ، و أنشد للنجوم و القمر منادياً روحي الضائعة ، التي أدرك أنها تحلق بعيداً في مكان ما ، و يحدث في أحيان نادرة ، أن أحس بتلك الروح قد رضيت عني و عادت إلي ، فيهتز جسدي ثم إذا بها أجنحتي ترفرف من جديد ، و إذا بي أنا أطير ، أعوم في الفضاء المزدان بالنحوم مثل سمكة تعوم في المحيط . و لكن هذا لا يحدث إلا في أحيان نادرة و لحظات مؤقتة تشبه أحلام اليقظة ، و أنا أتمنى فقط لو تتكرر تلك الأحلام.


- مذكرات -


تعليقات

المشاركات الشائعة