أنا الخريج
صوت يناديني من بعيد : الآن أنت قد أصبحت شاباً ، الآن لم تعد طفلاً و لو على سبيل المجاز ، فلتكن فخوراً بنفسك يا عزيزي ، و لتستشعر حجم ما أنت فيه ، لأنك اليوم ، أنت هو الشخص المقصود ، الذي كنت تشير إليه قبل سنوات و تقول : عندما أكبر...
إنك بما وصلت إليه الآن ، كنز طفولتك و أملها المنشود ، أنت هو الحلم الذي غرسته منذ يومك الأول في المدرسة ، أتستشعر ذلك الإحساس ؟ أتتذكره ، أول يوم لك في المدرسة ؟ لقد كنت خائفاً و مرعوباً مثل فرخ صغير ، و ارتعبت أكثر عندما تركتك أمك وحيداً و افترقت عنك ، لم تشعر حينئذ بالأمان ، لكن إحساس المغامرة دب داخلك ، أتتذكر يومك الأول في المدرسة ؟ و تلك الظلال الطويلة و أولئك العمالقة الذين يحفونك ، يبدون لك مرعبين و هم مجرد أطفال .
لطالما ضقت بالمدرسة ، لطالما خفت منها و استثقلتها ، لماذا أرى الدموع في عينيك الآن ؟ ألست مسروراً لأنك ستغادر المدرسة ، المكان الذي قضيت فيه أكثر من نصف عمرك ؟ و ستذهب إلى دنيا مجهولة لك تماماً ؟ لماذا لا أراك سعيداً بخلاصك من المدرسة بعد كل الشقاء الذي عانيته فيها ؟
أنت سعيد بلا شك ، لكن سعادتك يعكرها الحنين و الألفة ، إنه لمن الصعب أن تغادر هذا المكان الذي ألفته رغم كل شيء ، إنه الأرض الأولى التي غرست فيها أحلامك ، المدرسة نجم تفرقت و تناثرت منه كواكب صغيرة ، قد لا تكون أكثر الأماكن مرحاً و بهجة ، لكنها أول أرض و أول مجتمع ألفته في طفولتك ، و أنت تكاد تودعها الآن ، تكاد تسافر إلى أرض أخرى ، تكاد تكون شخصاً آخر .
و رفاقك ، أنت لن تنساهم بكل تأكيد ، لقد تقاسمتم الآلام سوية ، كنتم تتذمرون معاً ، تسخطون على الإمتحانات و الدراسة الثقيلة ، و ترتكبون أعمال الشغب أحياناً ، لقد رأيتك و أنت تتأملهم بعمق ذات مرة ، حين كنت جالساً إلى ركن الفصل ، راقبت ضحكاتهم ، و شغبهم و أحاديثهم ، شعرت أنهم نوعاً ما ، مثل أسرتك ، إن هناك نوعاً من الحب يربطكم معاً ، ثم فكرت في ذلك الفراق الذي سيكون بعد فترة ضئيلة ، فكادت دمعة تفر من عينك لولا أن أمسكتها بصعوبة ، ثم وبخت نفسك قائلاً :
" يا لي من سخيف ! لماذا أشعر أنني على وشك البكاء ؟! "
هل وصلنا إلى نهاية الحكاية ؟ تلك الليالي الطويلة التي ظنناها لن تمضي ، تلك الحقائب الثقيلة التي حملناها على ظهورنا ، و ذلك الهم الكبير الجاثم على صدورنا ، نحن طلاب السنة الثالثة . هل يعقل أن كل شيء قد مر بتلك البساطة ؟
لقد كانت السنة الثالثة هي السحابة السوداء الأثقل ، لكنها مرت ـ لقد طال أمدها ، لكننا علمنا أنها ستمضي ، و ها قد مضت ، تعذبنا و لكنها مضت ، و انكشف أمامنا أفق بهي و شمس مشرقة .
نحن نعلم أن هذه النهاية ليست سوى بداية جديدة ، بداية لقصة أخرى ، قصة أحلامنا التي ستتحرر من فوانيسها و تنطلق في أصقاع الأرض ، نحن الخريجين ، سنلقي قبعاتنا في السماء ، كأننا نلقي سدادات فوانيسنا ، و نحرر منها أحلامنا ، ها قد أتينا أيها المستقبل الذي كنا ننتظره عمراً طويلاً ، و سنخرج إليك أيها العالم ، لطالما كنا عظماء في أحلامنا ، و حان الوقت لنثبت أننا عظماء على أرض الواقع.
أنا الخريج - وضاحة عبد الرحمن
تعليقات
إرسال تعليق