حلم ذبيح
لم يأت الحيوان المنوي ! ما أقطع ذلك للأمل ! و ما أمره مذاقاً على نفس تلك البويضة المشرقة المتلألئة التي استعدت بكل فطرتها لهذا اليوم العظيم ! يوم الحرية و السعادة و النماء ، اليوم الذي حلمت به منذ ساعة ولادتها ، و قد ظلت حبيسة داخل المبيض ، حيث كانت تحلم بالنور ، تحلم بالحياة ، و تمني نفسها السجينة بأنه لابد من أن يحل زمن الحرية ، و أن يتوج صبرها الطويل بتاج من ذهب.
و بعد أن حان دورها للخروج ، ودعت أخواتها ، و نمت حتى أصبحت جاهزة لما تطلعت إليه ، لقاء الحيوان المنوي ، المنقذ الذي سيطرق بابها و يفتح أمامها كل ما تسعه الحياة ، و سيشرق شمساً تبدد ليلها الطويل ، و حسبت أنه ما إن تحين ساعة استعدادها حتى تتسابق إليها أعداد هائلة من المنقذين ، و يموت منهم من يموت في سبيلها ، و يتوه عن غايته من يتوه ، و تبقى هي الجوهرة الغالية ، الكنز النفيس ، الثريا بعيدة المنال ، التي يحلم الكل بالوصول إليها ، حتى يفوز بها أحقهم بالفوز و أجدرهم به ، و يموت من سواه . هكذا كانت تحلم ، قبل أن يصدمها الواقع .
و لم تكن وحدها من فرحت بلحظة خروجها ، بل فرح الرحم ، و ازداد سمك بطانته ، و ارتفع هرمون البروجسترون يبدو في ارتفاعه متحمساً و مستبشراً و متفائلاً ، يتبعه أخوه الإستروجين ، الذي كان أقل حماساً و تفاؤلاً ، و قد أخفى عن البويضة السعيدة خواطره الكدرة إشفاقاً عليها ، كان الإستروجين موقناً بأن شيئاً لن يحدث ، و يخشى أن الاندفاع في العواطف و الفرح الزائد يمكن أن تتبعه خيبة أمل عظيمة ، كما حدث في كل مرة سبقت ، و قد أسر لأخيه البروجسترون قائلاً :" ما بالكم فرحين هكذا ؟ إن الحيوان المنوي لم يأت من قبل ، و نحن ننتظره منذ أشهر طويلة مديدة !! بالله ألم تقتنعوا حتى الآن أنكم في كل شهر تنتظرون الخيال و تداعبون الأحلام ؟! ألم تحفظوا السيناريو المعتاد بعد كل ما شهدتم من خيبة البويضات المسكينات ؟ لن يأتي أحد ، و لا حيوان منوي واحد ، و ليست تلك القصة التي يرددونها إلا مجرد أسطورة باهتة ، لما نستمر في التصرف بغباء و التظاهر بالفرح و كأننا لا نعلم ما سيحدث في النهاية ؟ إنني لا أفهم سلوكك أنت و الرحم ! هل فقدتم عقولكم جميعاً إثر الصدمات المتتالية ؟ "
انتفض البروجسترون منفعلاً و في نفسه خوف من أن تسمع البويضة ما قيل ، فما إن تأكد أنها مشغولة عنهما بانتظار ما يهمها حتى ارتاح قليلاً ثم التفت إلى أخيه المتشائم و حدثه قائلاً بعتاب حاد : " هلا تخرس ؟ إنك تريد أن تفسد على البويضة أحسن لحظات حياتها و توقظها من حلمها الجميل بقسوة الواقع . نحن نعلم أن شيئاً لن يحدث ، أتعتقد أننا بُلَه ؟ لكن علينا أن نصمت و نحسن التصرف كي تحظى البويضة ببعض السعادة قبل أن تموت ، و لو كانت مجرد سعادة انتظارها للسعادة التي لن تأتي أبداً "
امتعض الإستروجين بألم ، و اشتد وجهه ظلاماً ، ثم قال بأسى :" فلتعلم أنني لا أطيق الكذب و الخداع ، و لكن ما باليد الحيلة ، سأمثل و أدعي فإن هذا أهون علي من أن أحرم البويضة من لحظات سعادتها الوحيدة "
ثم إن البويضة قد طال انتظارها ، و لم تر بوادر حلمها تظهر ، لم يحدث أي شيء ، قناة فالوب فارغة ، تجويف الرحم فارغ ، أين الجيش الجرار الذي يتسابق من أجلها ؟ إنها لا ترى أحداً لا هنا و لا هناك ، هل كان هذا مقلباً أم ماذا ؟ و لم تعد البويضة تتمنى ذلك الجيش ، بل حيوان منوي واحد ينقذها من خيبة الأمل و الإحساس بالمهانة ، و لكن حتى هذا لم يتم لها ، و ظلت تنتظر بفارغ الصبر دون فائدة . و لما فاض بها سألت الرحم بنفاد صبر :" أين الحيوانات المنوية ؟ لماذا لم يأت أحد ؟"
أدار الرحم وجهه منها كي لا تتمكن من رؤية عبراته ، و لم يجبها إلا بصمت ثقيل حزين ، فالتفتت بفزع إلى الهرمونين و هتفت لهما :" أجيباني أنتما ، أين الحيوان المنوي ؟ أين حلم الطفولة الذي من أجله انتظرت الشباب ؟" ، رسم بروجسترون ابتسامة مزيفة على وجهه و قال بتوتر و تلعثم :" إنه بكل تأكيد قادم ، لا تفقدي الأمل ، انتظري و .." ، فجأة قاطعه إستروجين الذي نفد صبره و لم يعد قادراً على احتمال الكذب و التزييف :" لن يأتي الحيوان المنوي ، إنه مجرد كذبة ، لقد كذبوا عليك ، و جميعنا اشتركنا في هذه الخدعة المرحة ، تهانينا يا عزيزتي بمعرفتك للحقيقة "
صمت ثقيل عم المكان ، لم يعاتب أحد الإستروجين على تفوهه بالحقيقة ، فقد أصبح كل شيء واضحاً حتى للبويضة نفسها ، و لكنها في تلك اللحظة لم تتكلم ، لم تصرخ أو تبكي ، ظلت متسمرة تنظر بعيداً ، و همست بصوت خافض :" حيوان منوي " ، ربما لم تستوعب هذه الصدمة الكبيرة التي تحطم القلب .
اقترب منها الرحم و وضع يده على كتفها مواسياً ، ثم قال بحزن :" لا عليك يا عزيزتي ، فلست أول واحدة تختبر هذا الشعور القاسي ، تموت بويضة في كل شهر و هي تحلم بما تحلمين به ، لكنها لا تحصل إلا على سعادة الحلم ، و ينهار كل شيء في النهاية ، نحن لم نكن نريدك أن تعلمي ، أردنا أن تعيشي هذه الساعات الأخيرة من حياتك في سعادة ، قبل أن يدركك الموت ، و يقدم حلمك إلى المذبحة ، سامحينا لأننا أخفينا عنك الحقيقة " ، لا تزال البويضة صامتة ، و عيناها تثقبان نقطة في الفراغ ، كأنها لا تسمع ما يقوله الرحم ، و لا تفقه شيئاً من هؤلاء الذين يحدثونها ، همست تردد :" لا ، حيوان منوي ، إنه هناك ، أنا أراه ، أراهم قادمين "
لم يفترض أحدهم أن البويضة تقول الحق ، فتبادلوا نظرات مشفقة و حزينة ، و همس بروجسترون بشفقة خالصة :" عزيزتي البويضة ، لقد فقدت عقلها ، ألهذه الدرجة كنت تتمنين أن يتحقق حلمك ؟"
و فجأة اهتزوا جميعاً ، اهتزت عقولهم و صرخت قلوبهم من الصدمة إذ اندفع سيل جارف من الحيوانات المنوية السابحة بسرعة جنونية ، يحركون أذنابهم و يتسابقون متجهين إلى قناة فالوب ، و يشقون طريقهم محدثين ضجة و صخباً بجنونهم ؛ فشهق البروجسترون و انفعل بصدمة و فرحة و هو لا يكاد يصدق ما تراه عيناه ، و الإستروجين الذي كان أشد صدمة هو الآخر ، و قد ذرفت عينا الرحم من السعادة و همس معبراً عن أحاسيسه
:" إن المعجزة تحققت "
أليست قمة النشوة و السعادة أن يعيش المرء حلماً في خياله ، فيتحقق بحذافيره على أرض الواقع ، أو رحم الواقع ؟ ها هي ذي البويضة تعيش في تلك القمة ، تنظر بزهو لحلمها يتحقق أمامها ، الحلم الذي لم يذبح ، تحقق أخيراً بعد طول الانتظار ، و آلام اليأس ، و مؤشرات التشاؤم ، تحقق الحلم الذي لم يكن لها وحدها ، بل شاركتها فيه أعداد من البويضات المسكينات اللائي هرمن و متن في انتظار هذه اللحظة التي تعيشها هي الآن ، أتدرك هذه البويضة أنها قد اختيرت من بينهن جميعاً لتكون بادئة خلق جديد ؟ تنتظر الآن ذلك الحيوان المنوي المختار مثلها ، و الذي يشاركها حلمها المقدس ، و سيعملان معاً على تحقيقه .
إنه من رحم الظلام و البؤس يولد النور و تتفتح الحياة .
تعليقات
إرسال تعليق