أنا البحر

 البحر متردد ، يتقدم و يتراجع ، يحركه الأمل ، يجذبه القمر ، و لكنه متردد ، و يبدو عليه ذلك جلياً حيث تتقدم مياهه و تتراجع ، و كأن حاجزاً خفياً يأمرها بالعودة ، و كأن نفس البحر تخشى المجهول . يشعر أنه يريد أن يجتاح اليابسة ، و هل يريد ذلك حقاً ؟ إنه يتردد أحياناً حتى في رغبته هذه ، فهو يريد اليابسة ، يشعر باللهفة و الفضول تجاهها ، و لكنه لا يريدها ، فهي ستحمله هموماً زائدة لا يطيقها ، ألا  تكفيه همومه التي يحتفظ بها في باطنه ؟ تساءل البحر : " لما أريد المزيد ؟ و ما نفع الطموح ؟"

إنه أزرق و زرقته مسالمة ، زرقة صافية و جميلة ، لا تشاركه فيها سوى السماء ، و تلك الزرقة التي يرتديها توحي بالسلام و الهدوء ، فيحس كل من يراه بأنه مثال للاستقرار ، و هو يحاول أن يبدو مسالماً بالفعل ، إن كان مظهره يريده أن يكون مسالماً ، و الناس يحملون عنه انطباعاً هادئاً و مريحاً ، فلما لا يتماشى مع السياق العام ؟ لما لا يهدأ و يكون كما أُريد له أن يكون ؟ و لكن ما الذي يحدد ما نكونه بالفعل ؟ أهي نظرة الآخرين لنا أم نظرتنا لأنفسنا ، أم ما نبدو عليه من الخارج ؟ كان البحر يعلم حقيقة واحدة ، و هو أنه ليس بالطيبة و السلام اللذين يظهرهما ، و هذا ما يجعله في كثير من الأحيان يحس بالنفاق البغيض ، فهو مليء بصنوف الحقد و الغضب التي لا يستطيع إنكارها ، و لا يمكنه أن يخفيها في كثير من الأحيان ، فيزمجر و يدفع بأمواجه عالياً ، حين يفقد زمام نفسه و يكف عن التمثيل ، حين تجتاحه الكراهية تجاه المتطفلين الذين يؤذونه و يقلقون صفاءه ، و تجاه العواصف اللئيمة التي تعكر مزاجه ، إنه يضطرب و يغضب ، و يحس بالكراهية تجاه العالم بأسره ، السفن و الحيتان و القروش و الرياح الهوجاء ، والسماء اللئيمة التي تزمجر برعدها في أذنيه فتحرمه النوم الهادئ ، يكرهها البحر في تلك اللحظات ، و إن كان يحبها في لحظات أخرى ، وإن كان في قرارة نفسه يعلم أنه قد لا يكره السماء و لا الرياح و لا السفن ، إنه يكره نفسه فقط ، لأنه لا يستطيع أن يكيف نفسه مع المتاعب التي تمر به ، يكره كونه ضعيفاً و حساساً لذلك الحد ، و لم يكن مهماً إلى أين يوجه البحر مشاعره الغاضبة ، لكنه كان مليئاً بها بما يكفي ليفسد صورة الانطباع الهادئ الذي يظهر عليه غالباً. 

    ليس البحر بالمخلوق الحقير ، و هو ليس بالمنافق ، و إن كان ظاهره لا يشبه باطنه ، و لكنه يخشى من أن يكون سيئاً حقاً و هو لا يدري ، لا أحد يشعر بأنه سيء ، الحاقدون و المجرمون لديهم مبرراتهم التي يعتذرون بها إلى أنفسهم ، أيعقل أن يكون شخصاً سيئاً ؟ أيعقل أن كل ما يخفيه في باطنه يشير إلى الوضاعة و النفاق ؟ لقد كان يخشى أن يكون مخلوقاً سيئاً و هو لا يعي ذلك ، و لكن إحساساً داخلياً يحدثه بأنه ليس سيئاً ، فهو يكره ما هو عليه ، يكره غضبه و اهتياجه و التهامه للسفن ، و لكنه لا يستطيع تغيير نفسه بهذه البساطة ، إنه يريد و لكنه لا يستطيع ، بل إنه أحياناً يشعر بالشفقة على نفسه ، و لا يدري إن كان عليه أن يسلبها حقها في التعبير عن أحاسيسها أم لا ، إن السماء تغضب ،  و جميع الخلق يغضبون ، و لكن غضب البحر جريمة ، غضب البحر موت ، و أخطاؤه لا تغتفر ، لقد حكم عليه بالصمت . و المسكين يشعر بالثقل ، داخله هموم ، داخله أعماق أخرى ، داخله غضب و حزن و رغبة جامحة ، داخله حياة لا يستطيع أن يعيشها ، أمنيات صغيرة تسبح و تتنفس ، و لا تقدر على مواجهة العالم .

    يتمنى البحر أحياناً أن يقتل أمنياته و يبيدها تماماً ، حتى تكف عن تعذيبه بحركتها و حياتها المقيدة ، و لكنه لا يستطيع قتلها ، لا يمكنه أن يقتل نفسه ، و لا يمكنه أن يطيقها في الآن ذاته ، يا ليتها لم توجد ، يقول أحياناً :" يا ليتني ولدت ميتاً ، عوضاً عن التظاهر بالموت " ، و لكن إن أتيح له أن يحقق أمنية واحدة من تلك الأماني التي تعشعش داخله ، فلن يختار إلا السلام.





تعليقات

المشاركات الشائعة