المرأة المشعة
ماريا سكلادوفسكا ، امرأة استحوذت على اهتمامي ، و أثارت بصدق إعجابي ، و لست أبتغي كتابة سيرة مقتضبة جافة عن حياتها ، لكني أريد أن أخاطبها متجاهلة حواجز الزمان و المكان ، أريد أن أتحدث عنها لا بوصفها عالمة عبقرية فقط ، بل بوصفها امرأة و إنسانة أحبت بشغف ، و ملأ الحب حياتها بنوره الساطع ، و سعدت برفقته و أنست بذلك ، و لكنه اشتد عليها و تضاعف نوره حتى قتلها . و يذكرها الناس بصفتها العالمة الفذة التي ربحت جائزة نوبل مرتين ، و اكتشفت عنصر الراديوم ، و لكن هل يذكر أحد أن مانيا كانت قبل كل شيء عاشقة ؟
ربما دفعها بؤسها و حزنها إلى الوقوع في ذلك الحب ، فقد عاشت ظروفاً صعبة ، عندما كانت بولندا تحت احتلال روسيا ، ماتت أمها و أختها مرضاً و هي في سن صغيرة ، فجزعت مانيا و فقدت إيمانها ، أصابها حزن بالغ ، و لعل ذلك الحزن هو الذي دفعها إلى اتخاذ العلم صديقاً و خليلاً ، و ربما مهرباً و عالماً موازياً ، و لعل الأمر غير ذلك ، فلست على علم بما دار في رأس تلك الإنسانة ، و لكن و مما لا شك فيه أن مانيا قد أحبت العلم لسبب أو لآخر ، و كرست حياتها لأجله . اصطحبت الكتب و اجتهدت في دراستها ، و كانت دائماً الأولى على صفها ، ظلت مانيا تبحث عن الحقيقة بشغف و تتحراها خلف الدوارق الشفافة و سحر الإشعاع المنبعث .
غادرت موطنها بولندا إلى فرنسا من أجل طلب العلم ، و قد درست الكيمياء و الرياضيات و الفيزياء ، و كانت امرأة تدرس بين الرجال ، في عصر لم تكن فيه النساء مقبلات على دراسة العلوم ، كانت ماري نجمة ثاقبة و مميزة ، تعرفت على رفيقها بيير كوري ، الرجل النبيل الذي شاركها حياتها العلمية و العاطفية ، و كان لها خير صديق و معين ، و سارا معاً يمسك كل منهما بيد الآخر ، و لكن بيير مات بحادثة أليمة عام 1906 ، فعادت ماري لتعتبر العلم صديقها الوحيد و أنيسها بعد وفاة زوجها .
اكتشفت عنصري الراديوم و البولونيوم ، و ابتكرت تقنية لفصل النظائر المشعة ، كما أشرفت على أول دراسات لمعالجة الأورام باستخدام النظائر المشعة ، لقد قضت ماري حياتها في البحث و طلب العلم ، و حصلت على جائزة نوبل لأول مرة في الفيزياء بالاشتراك مع زوجها بيير كوري و رفيقهما هنري بيكريل عام 1903 ، لتكون بذلك أول امرأة تحصل على جائزة نوبل على الإطلاق ، ثم حصلت عليها مجدداً في الكيمياء بعد بحث دؤوب و عمل جاد .
وقعت ماري في حب العلم و سحرها النشاط الإشعاعي ، و كانت أبحاث بيكريل المتعلقة بإشعاعات اليورانيوم هي التي حفزتها و دفعتها لدراسة النشاط الإشعاعي لهذا العنصر ، و توصلت تلك المرأة إلى اكتشافات عظيمة خلدت اسمها في التاريخ ، و لكن العلم الذي أحبته جعلها تدفع ثمن حبها ، فسلب منها حياتها ببطء و مهل ، و قتلها في النهاية .
أصيبت ماري كوري بسرطان خبيث بسبب الإشعاعات التي كانت تتعرض لها أثناء أبحاثها ، فتألمت و تعبت و تدهورت صحتها ، و كأن العلم تجسد مخاطباً لها :" لقد اكتشفت أكثر مما ينبغي يا كوري ، و إذن فعليك أن تموتي وتقدمي حياتك ثمناً لطعم المعرفة الذي تمتعت به " ، و قد استسلمت ماري للموت بعد صراع مع هذا المرض ، لقيت حتفها في الرابع من يوليو علم 1934 ، و رحلت عن العالم امرأة استثنائية قد لا تتكرر مجدداً.
إن كانت ماري تعلم أنها ستقدم روحها ثمناً لهذا الشغف ، هل كانت لتقف أمام خزانة أبيها و هي بعد في الرابعة من عمرها ؟ هل كانت لتطيل النظر في الأنابيب الزجاجية و الموازين الصغيرة المرصوفة على الأرفف ؟ تلك النظرات ربما تكون قد غرست داخلها ارتباطاً بالعلم منذ صغرها ، و إن عاد بها الزمن هل ستتجنب ذلك لكي لا يقع لها الشقاء و تفني حياتها تحت أشعة العلم الحارقة ؟ ربما لن تفعل ذلك و ربما ستخاطر بحياتها مجدداً و تفعل .
لقد اختارت ماري طريقها منذ البداية ، و هو بلا شك طريق صعب و وعر ، لكنه شريف و نبيل ، تمكنت ماري بتجاوزها هذا الطريق من أن تثبت أن العلم ليس حصراً على الرجل ، بل إن المرأة تستطيع أن تحب العلم و تعمل لأجله و تكون أماً للأبحاث و النظريات و الأفكار ، المرأة عظيمة عندما تكرس طاقتها و وقتها لهدف ما ، و ماري كوري خير دليل و خير نموذج .
رائع جدا بارك الله فيك
ردحذفشكراً لك
حذف