ورود الريحان
جميلة الحياة ، قد أقبل الشباب ، و أصبحنا نستنشق رائحة الحماس و المخاطرة التي ما كنا نشعر بها في عهد سابق ، و نحن إذ ننظر إلى المستقبل نراه غائماً مجهول التفاصيل ، فلا حيلة لنا عليه و لا نستطيع التكهن به ، و لكن الماضي أمامنا مفتوح على مصراعيه ، و هو كيفما أراه روض جميل و بهي تفوح منه رائحة الأزهار و الأمطار ، و فيه عشنا بالفعل ، بأرواح نقية و صافية لم يخدشها ألم الحياة ، لأن الماضي طفولتنا ، الماضي جنتنا ، و نحن نشبه أنفسنا بورود بريئة عاشت في بستان وديع ، ثم قُطفت منه و غادرته إلى الأبد ، هكذا نحن بعد أن تخرجنا من الطفولة ، و أنا طفولتي هي عام ألفين و ستة عشر ، تعيش تلك الطفولة في حي هادئ و جميل في الحلفايا ، هناك حيث تصطف الأشجار أمام منزلنا ، و يركض الأولاد على طول الشارع و هم يدحرجون إطارات السيارات ، و تجلس جدتي على مقعد صغير تتأملهم في عصر يوم جميل و هي تدندن بألحان سودانية كلاسكية ، و تظهر الحاجة فاطمة جارتنا العجوز من نافذتها و هي تعد الطعام في مطبخها بجلسة معتادة ، و أقف أنا أحياناً في شرفة شقتنا ، أراقب الشارع و أنظر إلى المسجد الكبير الذي لا يبعد عن شارعنا كثيراً ، و أدني رأسي فأتأمل تفاصيل الشارع المعتادة ، و قد أسمع الحاجة فاطمة تنادي ابنتها بصوت عال : " منى ، يا منى .." ، و قد حفظ جميع الجيران هذا النداء المتواصل المعتاد ، و لم يعد له وجود الآن ، فقد أغلقت الحاجة فاطمة نافذتها إلى الأبد و لم يعد أحد يسمعها تنادي منى .
أنا و أخواتي و بنات خالتي نركض جميعاً باحتفال و صياح ، و نذرع السلالم جيئة و ذهاباً مترددين بين منزلنا و منزل جدتي القريب حيث تعيش مع أخوالي ، و كنا نحس بأن لدينا بيتين للمرح ، بل إن أرض السودان الجميلة كانت كلها بيتنا الكبير ، و ما أطيب السودان ! ذلك البستان الذي عشنا فيه جميعاً بسعادة يوماً ما !!
و في حوش جدتي كنا نلعب بالطين و نشكله ، فنصنع العصيدة و الكسرا و الملاحات بالماء و التراب ، و ندعو بعضنا البعض مقلدين أمهاتنا في الكلمات و التصرفات ، كنا نلعب أحياناً لعبة المدرسة و لعبة الدكتور ، و قد استمتعنا باللعب مع بنات خالتنا ، و كانت خالتي التي تعيش في أم درمان تأتي ببناتها من حين لآخر في عطلة نهاية الأسبوع ، فنحس معهن بالسعادة و السرور ، و كنت بشكل خاص مقربة من ابنة خالتي زينب ، كانت فتاة صغيرة و لكنها ثعلبة ، تدفعني دائماً لخوض المغامرات ، و هي الرأس المدبر في الفريق ، كنا نقع في المتاعب و نرتكب الحماقات ، و تشاركنا بقية الفتيات المرح ، جميعنا كنا مقربات من بعضنا و قد أحببنا بعضنا بصدق .
و لم تكن حياتنا رغم نعومتها خالية من المشاكل تماماً ، فقد كان لدينا أعداء ألداء ، و هم فتيان الحي ، شكلوا عصابة ضدنا ، خضنا الشجارات معهم دائماً ، و خاصمناهم خصاماً شديداً ، وأتذكر بشكل خاص ابن جيراننا الذي يكبرني بعام واحد ، فقد كان شديد العداوة لنا ، و لم يسبق أن شاركنا اللعب مرة واحدة . و قد كنت أنا البادئة حين طردته من منزلي ذات مرة بتحريض من بنت الجيران ، فنصب نفسه منذ تلك اللحظة عدواً لنا ، و شاركه أصدقاؤه العداوة تجاهي و تجاه بنات خالتي و أخواتي ، و هكذا أضحت هناك عصابتان في الشارع ، عصابة الأولاد و عصابة البنات . و قد حدث قبل عام ألفين و ستة عشر أن حاولوا إخافتنا بقناع ارتداه ابن جيراننا ذاك ، و قرر إصابتنا بالهلع و جعل أصدقائه يضحكون ، كانت جدتي قد أرسلتني لأجلب الملح من شقتنا ، فقابلني الأولاد في الطريق ، و اندفع " الوحش " ناحيتي و هو يزأر بقناعه السخيف ، توجب علي منع نفسي من الضحك ، نظرت إليه ببرود جم ، ثم واصلت طريقي دون أن يبدو علي أدنى انفعال ، لقد كنت باردة كالثلج ، مما أثار غيظهم و سبب لهم خيبة أمل ، و حين وصلت للمنزل فوجئت بالفتيات و هن يبكين بعد أن تعرض لهن وحش الشارع ، كن جميعاً أصغر مني في السن لهذا فقد انطلت عليهن الحيلة ، و قد غضبت في ذلك اليوم ، و غضبنا جميعاً و قررنا الانتقام من هؤلاء الأولاد .، فاشترت لنا خالتي أقنعة أرانب مضحكة ، قمنا بارتدائها و هرعنا لنخيف الأولاد و ننتقم منهم ، لكنهم نظروا إلينا بسخرية و برود ، و لم نفلح في إخافتهم كما أخافونا . بالرغم من هذه العداوة الواضحة ، و لكننا كنا مجرد أطفال ، و لم نشعر تجاه بعضنا بكراهية حقيقية ، لقد كنا نلعب فقط .
كنت أعود من المدرسة على متن الحافلة ، فأنزل و أتظاهر ببراءة و سذاجة أنني قد دخلت إلى بيتي ، و ما إن ألمح الحافلة قد غادرت حتى ألقي حقيبتي في المدخل و أركض صوب منزل جدتي ، هناك تقابلني بحفاوة وتسمعني كلمتها المألوفة الدافئة : " حبابك " ، و أحيانا تقدم لي البرتقال أو المانجا ، لقد كانت جدتي امرأة كريمة و رائعة ، جميعنا نناديها : " ماما عشة " ، أحببتها من كل قلبي ، و كنت أتردد عليها كل يوم بعد عودتي من المدرسة ، و قد أحبتني هي أيضاً . أتذكر صورتها و هي مستلقية في سريرها تنحني لتحرك البن بملعقة و تصنع القهوة على موقدها الصغير ، كانت تطلب مني أحيانا أن أحضر لها السكين و البصل من المخزن كي تعد الملاح ، و قد علمتني جدتي الكثير من الأشياء ، كنت أساعدها بكل حب ، و ترسلني أمي كل مساء إلى جدتي لكي أحمل لها الغداء ، كانت تطلب مني كثيراً أن أجلس و آكل معها ، و قد أحبتني كثيراً كما أحببتها ، و يا ليتها كانت حية اليوم لترى كيف كبرت حفيدتها و أصبحت شابة يمكنها أن تسامرها و تتحدث معها ، و ليست مجرد طفلة صغيرة تلعب بالطين في حوش المنزل .
الأشجار تعرفنا جميعاً ، فقد تسلقناها و عانقناها و ركضنا بينها ، و كنا أحياناً نقابل ورود الريحان الجميلة فنستنشقها و نقطفها ، كانت رائحتها طيبة و منعشة ، تبعث الإحساس بالسعادة و تحيي النفوس ، و كنا نؤمن نحن الفتيات الصغيرات بأن ورود الريحان هي مصدر للفرح و البهجة ، و أتذكر مرة أن إحدى قريباتنا مرضت مرضاً شديداً فسافرت إلى الخرطوم و أقامت في منزل جدتي ، فاتفقنا أنا و الفتيات أن نصنع لها عطراً من ورود الريحان ، عسى أن تبعث فيها السعادة و تشفيها من مرضها ، و سارعنا إلى تنفيذ هذه الفكرة و قطفنا كمية من الورود ثم غمرناها في المياه ، و قرأنا عليها سورة الفاتحة ، خالتنا المريضة أعجبت بهديتنا و شكرتنا بامتنان . و بعد فترة تماثلت للشفاء ، فشعرنا بالفخر و السعادة لأننا اعتقدنا أن عطر الريحان قد أعاد لها صحتها . و زاد إيماننا بروعة هذه الورود .
و إذا رأيت أو استنشقت بالصدفة تلك الرائحة الجميلة لورد الريحان ، أتذكر تلك الحكاية فأضحك و أتذكر حكايات أخرى لطيفة ، إن تلك الرائحة تعيدني للوراء ، لذلك الحي الجميل في الخرطوم بحري ، و لتلك الحقبة الذهبية من أعمارنا ، الآن تغير كل شيء ، و سكنت الحياة في ذلك الحي ، نحن انتقلنا إلى بلد آخر ، و جدتي الحبيبة توفيت ، و لحقتها حاجة فاطمة ، و من لم يدركه الموت فقد رحل إلى مدينة أخرى ، حتى جيراننا وابنهم قد رحلوا ، و حل محلهم قوم غرباء على الحي لا تعرفهم الأرض و لم تألفهم الأشجار ، و قلة هم الذين لا يزالون يعيشون هناك ، و لست أدري سبب هذا الموت المفاجئ الذي خيم على الحي الذي أصبح كالأرض الجرداء بعد أن كان بستاناً مليئاً بالحيوية ، و إن أتيح لك أيها القارئ أن تسافر إلى الخرطوم بحري و تنظر إلى حينا عن كثب ، فلن ترى ما يثيرك بادئ الأمر ، و ستحس بأن شارعنا بارد و فظ ليس به ما حدثتك عنه من جمال ، و لكن اذهب و اقترب من الأشجار التي لا تزال حية ، و اسألها عن سنة ألفين و ستة عشر ، فستجيبك بحفحفة لطيفة ، و ستهز وجدانك هزاً ، فتبدو لك أشباح الفتيات الصغيرات يلعبن بينها و يتسلقنها ، و يبدو لك الأولاد و هم يركضون خلف الإطارات مستمتعين ، و تبدو لك جدتي و هي جالسة تدندن الألحان و تتأمل في الطريق بقسماتها الطيبة ، و ربما تسمع ذلك النداء الذي اعتادت عليه الآذان و ألفته : " منى .. يا منى.. "
هذه المذكرات كتبتها عن طفولتي
تعليقات
إرسال تعليق