الله و الحكمة

    لماذا يعبد الإنسان الله ؟ الإجابة عن هذا السؤال تبدو واضحة ، فالإنسان يعبد الله خوفاً من النار و طمعاً في الجنة ، إنه الدافع الذي يحمل الإنسان على مقاومة نفسه و شهوته و الامتناع عن مجاراة هواه، الرغبة في الحصول على المكافأة و الخوف من العقاب ، جيد . و لكن ، قد أتساءل أحياناً :  أليست هذه العلاقة التي تربطنا بالله جلفة و تجارية إلى حد ما ؟  لو أن الله أخبرنا فجأة بأنه لن يكافئنا بجنة  أو يعاقبنا بنار ، فهل سنقرر التوقف عن عبادته ؟ إن هذا الدافع الذي يحمل الإنسان على عبادة ربه هو دافع ركيك هش و مكلل بالمصلحة الشخصية ، أنا أعبدك و أنت في المقابل تعطيني الجنة و تمنع عني النار ، يبدو الأمر مثل اتفاق و معاملة تجارية ، و مع الخالق .

  ألا يجب أن يكون الدافع وراء العبادة أكثر ليناً و نبلاً ؟ و ينبع من عاطفة أكثر جمالاً مثل عاطفة الحب ؟ إن حب الله يجب أن يكون الدافع الباعث للعبادة ، محبته لأنه الخالق ، لأنه المبدع العظيم الذي أوجد الكون ، ألا يستحق إله مثل هذا أن يُعبد بلا مقابل ؟ لقد خلق الإنسان من العدم ، و وهبه العقل و سخر له طيبات الحياة ، من حقه أن يُعبد دون تلك الوعود و الأماني ، و لكنه رغم ذلك قرر أن يكافئ عباده و يجازيهم ، أليس هذا كرماً و حرصاً منه على تقوية أسس العلاقة بينه و بين مخلوقه ؟

  إن هذا الأمر يشعرني بأن الإنسان كائن حقير و ضعيف و أناني في أعماقه ، مهما تطور و بلغ به العلم ، فإنه لا يزال غير قادر على أن يجابه نفسه و يدفعها للقيام بعمل ما دون تصور مكافأة قريبة أو بعيدة ،و لولا اللذة التي ارتبطت بحاجات الإنسان الأساسية لتكاسل الإنسان عن القيام بهذه المهام ،و لولا  الألم و الخوف الذي زرع في الإنسان لما كلف نفسه عناء اجتناب ما يضره ،  بل إنه كان سيهمل وجوده و حياته نفسها لو أن الله لم يجبله على حب البقاء ، إنه كائن تحركه المشاعر و الهرمونات و المكافآت ، ألا ما أعجب هذا الكائن !  

 و الله إذ خلقه فإنه يفهم طبيعته فهماً قويماً ، و إنه ليعلم أن الإنسان لا يفعل شيئاً بلا مقابل ،  فخلق له الجنة و النار و اللذة و الألم كي يدفعه إلى تأدية واجباته الأساسية التي يتطلبها وجوده ، و العبادة لها أهمية كبيرة لهذا الإنسان نفسه ، و الله هو الغني عن صلواتنا و همهماتنا و ركوعنا و سجودنا ، و لكننا لسنا في غنى عنه . و كل هذه المحركات و البواعث التي خلقها الله للإنسان تثبت أنه مخلوق مرهونة أفعاله بالمكافأة و العقاب ، و هو أسير لهذين القيدين تحت إشراف مصلحته . و لم يشأ الله أن يغضب من الإنسان و يعاتبه على هذه الطبيعة التي جبله عليها ، و لكنه أراد منه فقط شيئاً واحداً ، و هو أن يحدد المكافأة الأحق بالعمل لأجلها ، ثمة في الحياة مكافآت قريبة و أخرى بعيدة ، فالراحة مكافأة قريبة ، أما الجنة فهي مكافأة  بعيدة ، و لكن المرء يخطئ حين يميل للمكافأة القريبة و يزهد في المكافأة البعيدة بغض النظر عن قيمة كل منهما . إن الله لا يريد من الإنسان أن يتكلف و يخلع ثوب أنانيته ، و لكنه يريده فقط أن يبذل بعض الجهد في محاولة السعي نحو المكافأة الأكبر ، و ليس الأقرب . هذا هو الامتحان الحقيقي في الحياة ، امتلاك ميزان صحيح و عادل لتقديم ما هو أهم على ما هو أقل أهمية ، و من المعروف أن وضع كل شيء في موضعه الصحيح هو ما يطلق عليه الحكمة . 

إن الحكمة المطلوبة من الإنسان بديهية و قريبة من إمكانياته ، و قرر الله أن الحكماء لهم الجنة ، أما غير الحكماء فلهم النار ، و الحكيم لا يختلف عن غير الحكيم سوى أن الأول يسعى للمكافأة الكبيرة  مرتفعة القيمة ، و الآخر تهمه المكافأة القريبة التي تشبعه بسرعة ، و لكن الطبيعة الإنسانية مع ذلك لا تختفي خلف ستار الحكمة ، فكل منهما يريد المكافأة .

  و أرى أنني سأقسو في حكمي و أجور إن لم أذكر أن هناك من يشذ و يسمو على هذه الطبيعة المتجانسة ، هناك بشر استطاعوا أن يتجاوزوا بروعتهم و شجاعتهم و مشاعرهم حدود المكافأة و العقاب ، إنهم القوم النبلاء الذين تجاوز نبلهم السمات البشرية الاعتيادية ، و مثل هؤلاء قلة قلائل ، و قد لا يوجد منهم سوى إنسان واحد كل عشرة قرون ، و إني أعرف مثالاً لإنسان وصل إلى هذه المرحلة ، و هو النبي محمد صلى الله عليه و سلم ، رسول الإسلام الذي أعتنقه ، كان المصطفى يعبد الله بصدق و إخلاص ، و يقوم الليل و يستغفر الله بالرغم من أن ذنوبه مغفورة ، فهو سيدخل الجنة بلا ريب ، ما حاجته لبذل جهده في العبادة إلى هذا الحد ؟ إن إجابة النبي على ذلك هي : " أفلا أكون عبداً شكوراً ؟ " ، لم يكن يعبد الله خوفاً من النار و طمعاً في الجنة ، بل كان يعبده حباً و امتناناً له ، كان النبي يعبد الله لأن الله يستحق العبادة بحق . العلاقة بين محمد و ربه لا تشبه علاقة أي إنسان آخر بالله ، إنهما صديقان محبان ، و ليسا مجرد عبد و إله .

   تقوى الله ليست الغاية ، و أن يصبح المرء تقياً ليست مرحلة عليا في الإنسانية ، و هي لا تعني أنه قد وصل إلى الذروة ، بل إن الغاية العليا هي الوصول إلى عبادة الله دون تصور المكافأة ، دون أن تكون هي المحرك الباعث على الطاعة ، و دون الخوف من العقاب ، دون أن يكون هو الحاجز عن المعصية ، إن تمكن الإنسان من إدراك هذه الغاية فإنه سيصل إلى حب الله في قلبه . و سيتجاوز بذلك حدود الحكمة الإنسانية . 



مدونة وضاحة 

تعليقات

المشاركات الشائعة