من سيربح الفوتون ؟

كان الفتى جالساً  باضطجاع على الأريكة يذب عن نفسه بمروحة ورقية و يحدق في السقف ، فإذا بذبابة مضيئة بالغة الصغر تتجه نحوه بسرعة كبيرة ثم تحط على رأسه و تتوغل في شعره ، أحس برعشة ساورته في أنحاء جسده ، ثم هرش على رأسه قائلاً بتبرم : حشرات بغيضة !! 

ولجت الذبابة إلى منابت شعره غير عابئة بشتيمته ، و هناك داخل شعر تنجستن ، عاشت كائنات صغيرة دقيقة ، يبلغ عددها أربعة و سبعين ، كانت تلك الكائنات معروفة بالإلكترونات ، و لم تكن كارهة للذباب مثل صاحبها ، بل إنها ما إن عرفت بخبر قدوم الذبابة الفوتونية حتى جعلت تصيح من الفرح ، و جعل كل منها يتمنى أن تكون الذبابة من نصيبه هو !

   و قد عاش إلكترون صغير في المستوى الأدنى من المعيشة ، كان يرتدي ثياباً رثة و قديمة ، و يشغل وظيفة تدر عليه راتباً ضئيلاً ، كان ينتمي إلى الطبقة الكادحة بكل ما يعنيه هذا الوصف ، و لم يدرك ذلك الإلكترون البائس أن الحظ سيبتسم له هذه المرة ، و سيربح فوتوناً تعادل قيمته طاقة كبيرة للغاية ، و هذه الطاقة كافية لجعله يطير من السعادة و يعيش حياة مختلفة تماماً عن حياته الرتيبة ، بعبارة مختلفة ، ستنقله إلى مستوىً آخر .

  عندما سقطت الذبابة الفوتونية على الإلكترون الصغير ، التقطها بلهفة ثم احتضنها و امتص كل طاقتها ، فشعر بنشوة بالغة هزت جسده الصغير هزاً ، و هناك من حوله ، وقفت الإلكترونات الأخرى التي لم يحالفها الحظ تنظر إليه و تغبطه على ما ناله ، و حين رأته و هو يستقل طائرة فخمة و يغادر هذا الحي الفقير ، لم تستطع أن تتمالك نفسها من فرط الغيرة . 

وصل الإلكترون إلى حي مختلف تماماً عن حيه القديم ، كانت المنازل قصوراً و الشوارع معبدة و نظيفة ، و قد وقف مذهولاً أمام فيلا رائعة و فخمة خطفت أنفاسه ، قدم له أحد الرجال مفتاحاً و قال له : " مبارك لك يا سيدي ، هذه الفيلا أصبحت ملكاً لك منذ الآن " 

ارتعشت يد الإلكترون من الفرحة و هو يمسك المفاتيح في غير تصديق ، ثم دلف إلى الفيلا و أخذ يتمعن بعينيه كل ما حوله ، الأثاث الضخم و التصميم الرائع و الغرف الواسعة ، كل ذلك بهره أي انبهار و سحره أي سحر ، و لم يكن قد وصل لهذا المستوى الرائع حتى في أحلامه . دخل إلى غرفة نومه الراقية ثم فتح خزانة مليئة بالملابس العصرية التي لم يرها من قبل ، و لم يألف طوال حياته سوى الخرق البالية المهلهلة ، فتضاعفت سعادته و هو يقلب بيديه الجديد من الثياب و العطور و الأحذية ، ارتدى أحسن ما وجد ، ثم خرج من القصر متباهياً و مغتبطاً بحاله الجديدة ، ركب سيارة حديثة أعدت خصيصاً له ، و من ثم تجول في أنحاء الشوارع الراقية ، و زار النوادي و المقاهي التي يرتادها الأغنياء ، و هناك تعرف على أصدقاء من الإلكترونات الثرية التي ولدت في هذا المستوى العالي و ترعرت فيه منذ نعومة أظافرها ، كانت هذه الطبقة البرجوازية متطلبة و متكلفة ، و كانت تافهة ، لا ينشغل أفرادها أكثر ما ينشغلون سوى بالقهقهة و اللعب بالأوراق ، و لكن الإلكترون أحب الاختلاط بهم و الخوص في تفاهاتهم ، فقد أبعده ذلك عن همومه التي عاشها مع رفاقه الكادحين في المستوى الأدنى ، و ظل الإلكترون على حاله من البهجة و السرور ، يرتاد المطاعم و المقاهي و يحضر الحفلات ، و يعيش عيشة لا يحلم بها أحد . و إن كان لم يزل غير قادر على تصديق التحول المفاجئ الذي نقله من مستوىً إلى مستوىً آخر تماماً.

   وصل لمنزله متأخراً في إحدى الليالي ، فقد كان يحتفل مع أصدقائه ، و لما اقترب من بوابة البيت وجد رجلين ضخمي الجثة واقفين  هناك ، صاح أحدهما بصوت غليظ :" انتهى العمر الزمني أيها الإلكترون ، حان وقت العودة إلى مستواك الأصلي" ، شهق الإلكترون بعد إدراكه أن تأثير الذبابة الفوتونية قد زال ، و هذا يعني زوال كل النعيم ، لمحها و هي تخرج طائرة من أذنه ، فذعر لذلك أي ذعر ، لكن الرجلين لم يمنحاه الفرصة لاستيعاب ما يجري و توديع النعيم ، فسحباه بعنف و غلظة و نقلاه على متن الطائرة ثم ألقياه على أحد شواع حيه الأول الفقير ، كانت صدمة أخرى بالنسبة للإلكترون ، لكنها على عكس سابقتها ، كانت صدمة سيئة . و لما أدرك أنه قد خرج من النعيم تماماً و عاد لحياته الأولى حتى بدأ بالنحيب و راوده البكاء بصورة هستيرية ، لقد كانت أجمل واحد على مائة ألف جزء من الثانية عاشها هذا الإلكترون في حياته ، لكنها انقضت  آخر الأمر .

 و وقفت الإلكترونات من حوله تحدق فيه و قد زال عنها الحسد و غمرتها الشفقة تجاهه ، فرحوا جميعاً لأن أياً منهم لم يربح ذلك الفوتون الشرير ، الذي يرفع الإلكترون رفعاً فاحشاً ثم يرميه رمياً موحشاً ، فيدرك فقره أكثر من أي وقت مضى ، و يعي سوء حاله بعد أن رأى ما يكون من نعيم الحياة و جمالها ، و يعلم ما يعتري حياته من نقص ، هذه تكون فائدة الفوتون بالنسبة للإلكترونات .

خرجت الذبابة من شعر تنجستن بعد أن أدت مهمتها الشريرة التي أتت من أجلها ، حينما لمحها انتفض من مكانه و حاول سحقها بالمجلة التي يحملها ، و لكنها لاذت بالفرار .


من سيربح الفوتون - مدونة وضاحة

 


تعليقات

المشاركات الشائعة