الجيران

إسماعيل ، رجل مسن و هزيل ، قصير القامة و رقيق السيقان ، تكسوه دائماً ثياب مهلهلة توحي بالفقر و العوز ، بينما كان جالساً في صالة منزله مع امرأته العجوز عواطف ، يتبادلان بعض الأحاديث عديمة النفع حول الحرب و النكد الذي يخيم على الشعب ، إذ بهما يسمعان صوت طرق عنيف على الباب الخارجي ، قفز قلب إسماعيل الضعيف جزعاً من شدة الطرق ، و لم تكن زوجته أقل رعباً منه في تلك اللحظات ، هاجر معظم الجيران من هذا الحي البائس الذي يقع في أم درمان ، و لم يتبق سوى قلة قليلة لا تربطهم بهما علاقة وثيقة ، فمن ذا الذي يطرق الباب في هذا النهار المشؤوم ؟ 

صاحت عواطف بعد أن أفاقت من جزعها : " يا راجل هوي قوم افتح الباب دا ، الله يستر دا منو البدق لينا كدا ؟! " ، نهض إسماعيل  متثاقلاً  ثم اتجه ناحية الباب و فتحه ، فما كاد يفعل ذلك حتى تسمر في مكانه واقفاً و راقب بأعينه الدقيقة تلك الأجسام الواقفة أمامه ، و لو أنه رأى أسداً مفترساً في تلك اللحظات لوصفت ملامحه بأنها أقل رعباً ، و لكنه رأى جنديين يرتدي كل منهما الزي الرسمي لقوات الدعم السريع ، و يحمل كل منهما سلاحاً ، و يحدق كل منهما بعيون تقذف النيران الملتهبة ، كاد يسقط مغشياً عليه ، و لكنه تماسك و فتح فمه قائلاً بصوت متهدج : " أهلاً و سهلاً ، أي خدمة ؟ " ، تقدم نحوه أحد الرجلين و رد عليه قائلاً بصوت غليظ جلف : " كيف حالك يا عمنا ؟ لا أبداً ، نحن فقط نريد هذا المنزل بما فيه ، سنجعله مقراً لنا " ، ابتسم إسماعيل ابتسامة باهتة ، و قد كانت عظامه ترتجف ، و لم يستطع لحظتها النطق بحرف لفرط غباء و هول الموقف ، و لما رأى الرجلان أنه تأخر في الإجابة ، تحسس أحدهما سلاحه علامة تهديد ، و خاطب العجوز قائلاً : " ما بك ساكتاً هكذا يا عم ؟ هل لديك مشكلة ؟"  ، فزع إسماعيل و أجاب من فوره بضحكة مزيفة و نبرة صوت خائفة : " لدي مشكلة ؟! بالتأكيد لا توجد مشكلة ، كل شيء تمام ، و لكن يا سيدي ، هناك أمر صغير فقط ، لا تشغل بالك به كثيراً ، إنه أمر تافه و مع ذلك سأذكره يا سيدي ، أين سنقيم أنا و زوجي ؟ نحن عجوزان هرمان و ليس لدينا مكان نذهب إليه ، أنت تعرف ، ألا يرق قلبك لحالنا ؟ " ، صمت العجوز على أمل في استدرار عطف الشابين ، كان الجندي الذي حدثه يفرك ذقنه و هو يستمع إليه ، ثم رفع سلاحه ببرود و قال : " لا بأس ، يمكننا أن نقتلكما و نريحكما مرة واحدة " ، وقع هذا الحديث على قلبه موقع الصاعقة ، فأطلق ضحكة عالية في محاولة لكتم خوفه ، ثم أتبع ذلك بقوله : " لحقاً كم أنت ظريف يا سيدي ! لطالما كنت أقول إن جنود الدعم السريع ليسوا أقوياء فقط بل  إنهم ظرفاء و يتمتعون بحس الفكاهة ، مثلك تماماً يا سيدي " ، بادله الجندي ضحكة مخيفة جافة ، ثم خاطبه بجمود : " أنا لا أمزح يا رجل ، إن لم تتنح عن طريقنا فليس هناك ما هو أسهل من قتلك " ، صاح إسماعيل حينها و هو يضم يديه في توسل : " و لكنكما لا تحتاجان إلى قتلي ، هذا المنزل ملك لكما بما فيه ، تستطيعان الدخول و إحراقه إن رأيتما ذلك ، و أنا تحت أمركما ، صدقاني ، و لكن ، إن أردتما النصيحة ، فهذا المنزل لن يفيدكما أبداً ، إنه أحقر شأناً من ذلك ، صدقاني يا سيدي العزيزين ، أنا أقول الحقيقة " ، أردف بعد لحظة صمت قصيرة : " نحن بؤساء ، لا نملك أي شيء ، ليس في منزلنا سوى الفول و العدس ، نلبس الثياب القديمة ، و بيتنا متهالك ، متهالك ، حتى أن عاصفة أو أمطاراً غزيرة يمكنها جعله ينهار تماماً  ، و أنا أرى أن هذا المكان لن يكون مناسباً لجنود بواسل أمثالكم ، أنتم تستحقون أفضل منه لتجعلوه أحد مقراتكم " ، ابتسم الجندي ابتسامة صفراء و قال : " جميعهم يقولون هذا ، أنت تريد أن تحمي نفسك فقط " ، أشار إسماعيل لنفسه قائلاً : " أنا ؟! مستحيل ! إنما أقول هذا الكلام لمصلحتكما ، و لكي تتحققا من حسن نيتي ، سوف أقدم لكما معروفاً و أدلكما على منزل أحسن من هذا المنزل بمائة مرة ، سافر صاحبه و تركه بلا حراسة " ، ابتسم و لمعت مقلتاه بمكر و هو يلحظ الاهتمام على محييهما ، ثم اقترب من الجندي الذي يحدثه  و ربت على كتفه و هو يوجهه مشيراً بيده : " أترى ذلك المنزل الرمادي البعيد في نهاية الشارع ؟ إن صاحبه رجل غني و لديه الكثير من المال ، و زوجته تلبس الذهب الأصلي ، لقد سافرا مع عيالهما ، و إن بيتهما مليء بالأثاث الفخم و المقتنيات الثمينة ،  أرى أنه من الأجدر أن يبدأ النهب بمثل هذه البيوت " ، لمح الرضا مرتسماً على وجهيهما ، ثم صافحه الجندي قائلاً : " شكراً لك أيها الرجل " ، و غادر مع صاحبه متجهين إلى المنزل الرمادي ،  تنفس إسماعيل الصعداء و كأن حملاً ثقيلاً أزيح من كاهله ، ثم أغلق الباب و توجه إلى الداخل  حيث قابلته زوجه عواطف و على محياها يرتسم القلق ، سألته من فورها : " من كان الطارق يا إسماعيل ؟ و لما تأخرت هكذا ؟ " ، اضطجع على أحد الأسرة ثم أجابها قائلاً : " إنهما دعاميان " ، شهقت عواطف واضعة يدها على صدرها و صاحت :" يا ويلي ؟! و كيف تصرفت معهما ؟! " ، رد إسماعيل بابتسامة باردة شقت تجاعيده :" لا شيء ، لم يكن الأمر بتلك الخطورة ، دللتهما على منزل عوض فانفضا من فورهما " بدت الصدمة على وجه عواطف التي صاحت مستنكرة : " تدل الدعامة على منزل جارك أيها الخائب ؟! إن هذا سلوك ناقص و شائن ما كنت أتوقعه منك !! " ، رفع رأسه من على الوسادة و صاح بغضب : " اسكتي ! أنتِ امرأة ساذجة لا تعرف شيئاً ، لولا هذا السلوك الناقص لكنا أنا و أنت في عداد الموتى من زمان " ، جلست عواطف على أحد الكراسي ، كانت تطرق رأسها باستياء عندما قالت : " و لكنك خنت جارك يا إسماعيل ، لقد خنت جارك " ، لفظت تلك الكلمات ببعض الحسرة ، فتلقاها إسماعيل لتشعل داخله فتيل الغضب و تدفعه للصياح مزمجراً : " قلت لك يكفي يا امرأة ! لقد فعلت ذلك لإنقاذ حياتنا و ممتلكاتنا ، كما أن جارنا المتبجح عوض لا يستحق أبداً المعاملة الطيبة ، إنه لم يفعل أي شيء ليكون جاراً جيداً ، فلماذا نكون نحن الجيران الجيدين ؟ لقد كان ذلك الوغد يعاملنا مثل الحشرات الحقيرة ! كان يدهس علينا بكل زهو و غرور ، و كأننا أبناء الكلاب و هو وحده ابن ناس ، ينفق المال ببذخ و إسراف فاحش ، و يتصرف بلؤم مع الجميع ، إذا أردت أن تسلم عليه مد يده باشمئزاز و برود ثم سحبها سحباً من بين أصابعك ، لماذا ؟ من الخير له و لأمثاله أن يتذوقوا الفقر و يدركوا طعمه تمام الإدراك ، و حينها لن يتكبروا على غيرهم ، ألست على حق يا عواطف ؟! " ، سكت قليلاً ليمنح مستمعته فرصة استيعاب ما قاله ، و قد ردت عليه الأخيرة قائلة بصوت منخفض : " أعلم أنه مغرور يا إسماعيل ، و لكن .. " قاطعها المسن باندفاع : " لا تقولي لكن ، لا تقولي لكن يا عواطف ، أما كنتِ ترين امرأته ؟ إنكما في نفس العمر تقريباً و لكنها تبدو أصغر منك بعشر سنوات ، نحن لسنا مثلهم ، نحن لسنا أناس بذخ و إسراف ، و لكنهم يستحمون بالنقود ، إن امرأته تهاني تقصد صالونات التجميل كل يومين ، و تلبس الثياب الجديدة ، كما أنها لا تستطيع المشي جيداً لكثرة الذهب الذي يغطيها من الأعلى إلى الأسفل ، يالهم من بشر مثيرين للاشمئزاز ! ألا يستحقون أن يذوقوا بعض المعاناة ؟ قولي لي ، ألا يستحقون ؟" ، حدقت عواطف ساهمة و قد بدا عليها الاقتناع ثم قالت :  أنت محق يا إسماعيل ، يستحقون النهب 

    و في مكان آخر ، و قف رجل يدعى جلال مع أحد جنود الدعم السريع ، كان يشير إلى منزل صغير و يخاطب الدعامي قائلاً : " إنه منزل إسماعيل ، الرجل المسن العصبي ، و هو و زوجه يدعيان الفقر بمهارة ، و إن دخلت عليهما فلن يظهرا أي علامة من علامات الترف ، و لكنهما في الحقيقة مخادعان و بخيلان إلى أقصى درجات البخل ، و ليسا فقيرين كما يدعيان ، يرسل إليهما أبناؤهما المغتربون النقود فيختزنانها و يكنزانها ، لا ينفقان  حتى على نفسيهما ، يشتريان الذهب و يخزنانه ، امرأتي أخبرتني بذلك ،  اذهبوا إلى ذلك المنزل و فتشوه جيداً و ستجدون ما يسر خاطركم "



مدونة وضاحة

تعليقات

  1. رسالة : الحرب علمت السودانيين حاجة مهمة ، ما تجمع القروش اجمع الناس و اكسب الحبايب ، و ما تتكبر على زول شايفه أقل منك ، لأنه ممكن الزول دا لو جاته الفرصة ينتقم منك أشد انتقام ، زي ما عمل إسماعيل مع جاره عوض.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة