قربان الزمان

السودان : لو أنني استطعت أن أتجسد على هيئة البؤس الذي يغمرني ، لو أنني تمكنت من ذلك فسألقي بنفسي في أغوار النيل ، و سأغرق لتموت كل النيران التي تشتعل داخلي ، لو أنني أستطيع إخماد أوجاعي بمياهك الباردة أيها النيل ، سأكون سعيداً بل و في غاية السعادة ، حتى و إن دفعت روحي ثمناً لذلك .

***

النيل : و لما كل هذا البؤس أيها البلد العظيم ؟ إنني لم أعتد رؤيتك بهذه الهيئة المزرية . منذ متى  و كانت الهموم و المتاعب تؤثر فيك لهذا الحد ؟ 

***

السودان : لم أعد أقوى على تحمل كل ما يفعله أبنائي بي ، لم يعد بوسعي التماسك و ادعاء الصلابة ؛ و هذا لأنني محطم تماماً من الداخل ، فكيف تريدني ألا أبتئس ؟ و كأنك تطلب إلى أرض لحقها الجفاف أن تقاوم الموت المحتوم و تكذب على روحها بسخافة بادعائها غير البؤس  .

***

النيل : و لكنك لست أرضاً لحقها الجفاف ، إنك لست جافاً و لا فقيراً و قد ملكك الله الكثير من النعم ، و أنت تكذب على روحك إن ادعيت غير ذلك . و عيب عليك أن تشعر بالجفاف و أنا عرقك النابض ، و سأظل أسقيك و أروي عطشك ، فلما أنا موجود إذاً ؟

***

السودان : صديقي النيل ، إنك ما تلبث تحاول التخفيف عني و أنت أعلم الخلق بجرحي العميق ، و قد بت أتذوق دمعاً مالحاً يتخلل مياهك العذبة ، فهل تحاول أن تسقيني بدموعك أيها النيل !؟ أتسعى للتخفيف عني و أنت مصاب و حزين مثلي ؟! أبنائي يتنازعون و يفترس بعضهم بعضا ، يتقاتلون و يتشاجرون كأن أرضي لا تسعهم ، كأنني قصرت عنهم و عاملتهم بشح و بخل . لما يفعلون ذلك ؟ لما يرتكبون بي الإثم و قد منحتهم كل ما لدي ؟ هناك طعام و حلي و حياة تكفي الجميع ، فلماذا يتقاتلون هباءً و يمزقونني بهذه القسوة ؟ ألا يكفيهم أنهم قد بتروا أحد أطرافي قبل الآن ؟! لما يفعلون كل ذلك ؟!

***

النيل : أتسألني أنا أيها السودان ؟ اسأل الطمع و الحسد و الجهل والكراهية ، اسألهم فهم سيجيبونك بكل ما تحمله صدور الأفاعي السامة التي فتكت بك و بأبنائك .

***

السودان : قد فتكت بي هي حقاً ، فتكت بي و لم تبق لي قوة أو شأناً ، لو أنني أعلم من أين دخلت علينا تلك الأفاعي المروعة ! كيف نمت كل تلك الكوارث في أرضي و دمرتني ؟!  تآكل قلبي و احترق بفعل النيران الكارهة ، عاصمتي قضي عليها ، عزيزتي الخرطوم ، قد كنت يوماً من أحسن ما يكون ، و لكن مجدك و جمالك قد نسفا عن بكرة أبيهما ، عليك السلام و علي السلام .

***

الخرطوم : السلام لم يعد له وجود إلا في أحلام التعساء المساكين ، الذين يتناولون القهوة و يسرحون بأفكارهم بعيداً عن مراراتها ، و كذلك المجد و الحرية و التقدم و الجمال الحضاري ، ليست كل تلك الأشياء إلا أحلاماً قد تراود الشبان العاطلين الذين يملؤون شارع النيل كانوا و يجولون طرقاتي ، أما الآن فقد تركني الجميع و لم أعد عاصمة أحد ، أجوائي لم تعد تسمح حتى بمجرد أحلام بسيطة ، ما عدت ملاذاً لأحد ، لقد انتهيت أيها البلد العظيم ، و إن كنت يوماً في الماضي البعيد عاصمة الثقافة و الجمال ، و كان يشار إلي بالبنان ، فأنا لم أعد كذلك أيها البلد العظيم ، و ما كنته في الماضي لا يهم ؛ لأن حاضري هو الحكاية التي أعيشها .

***

السودان : لو أن الماضي كان مهماً فسيتعلم أبنائي دروسهم منه ، سيتعلمون من تاريخ يعاد مراراً و تكراراً حتى حفظته الأرض و حفظته السماء ، حفظته جبال النوبة و تلال الأنقسنا ، و لم تنسه مُدُني الجميلة و شوارعها التي كانت تنصت لصراعات الحكومة المتفككة ، و تحتمل إثم الانقلابات العسكرية منذ فجر الاستقلال .

***

سنار : صدقت أيها الوطن ، إننا عالقون في حلقة زمنية لا تكف عن تكرار نفسها ، و كأن الوقت قد تجمد بنا فأصبحنا نحوم فوق ركام القرن العشرين ، و لن يتقدم الزمن حتى نتحرر من تلك الحلقة و نتبع ضوء المستقبل .

***

الدويم : و ما نفع هذا الحديث و لا سبيل أمامنا كي نحظى بتلك الحرية ؟ حفظنا تاريخنا و لكننا عاجزون عن فعل أي شيء ، إننا عالقون في أسر لن تحررنا الكلمات منه .

***

مدني : و لن يحررنا الصمت من هذا الأسر إن التزمنا الصمت .

***

عطبرة : و لن يحررنا التذمر ، و لن يحررنا إنكارنا للواقع إن أنكرناه .

***

الخرطوم : أفدنا أيها النيل الجاري ، فأنت الوحيد الذي لم يجمده الوقت من بيننا ، كيف لنا أن نذيب هذا الجليد و نتحرر من هذه العجلة التعيسة التي علقنا فيها ؟

***

النيل : إن هذه الحلقة لا تعيد نفسها إلا لأن هناك خللاً ينبغي إصلاحه ، هناك سد عملاق يجب أن يهدم ، هناك خطأ مكنون ، و سيعيد الزمان شريطه مطالباً إيانا بالتضحية بهذا الخطأ الذي نستمر في ارتكابه و لا نعلم ما هو ، و سيجري الزمان حين تُصفى الشوائب و الآفات .

***

سنار : حينها ستحقن دماء الأبناء .

***

كوستي : ستجف دموع الأطفال الصغار . سيعم الأمان .

**

مروي : سيعيش الناس في سعادة و سلام .

***

الخرطوم : سيعود إلي مجدي القديم ، و سيفد إلي الناس من نواحي البلاد .

***

السودان : و حين يتجسد ذلك الخطأ و يُعدم غرقاً في أغوار الماضي ؛ فستعود إلي الحياة .




تعليقات

المشاركات الشائعة