الغاز النبيل
ما الدنيا بموادها و مركباتها إلا ابنة لتفاعلات كيميائية متداخلة و كثيرة ، أنجبت هذه التفاعلات السائل و الغاز و الصلب ، و تمخضت الحياة التي نحياها هذا الحين و منذ الأزل ، و إذا تراجعنا متتبعين أساس كل تلك التفاعلات و الاندماجات و التهيجات التي رسمت الحياة ، فسنجد أن قصتها بدأت من ذرة تبحث عن الكمال .
جل العناصر الكيميائية في طبيعة الله هي ذرات ناقصة ، تبحث كل ذرة عم ينقصها بشغف لجبر هذا النقص ، فتعمد للاتحاد مع ذرة أخرى لتملأ فراغها الذي جبلت عليه ، و لعلها تخاطب تلك الذرة الأخرى بلغة الطبيعة فتقول : " لنكن صديقتين و رفيقتين يا أختاه ، و سأجبر نقصك و تجبرين نقصي " فتوافقها الأخرى و تتحدان و من ثم تتحد كل الذرات كهذا الاتحاد حتى يتركب العالم و تنشأ الحياة ، و من هنا نرى أن أساس الحياة هو البحث عن الكمال ، هو محابهة النقص الذي يتملك النفوس ، و السعي نحو وضع أفضل و أكثر رقياً و استقراراً من الوضع الراهن .
و الكمال هو حالة من الرضا المثالي و الشعور بالاستغناء عن كل شيء خارجي ، سواء أكان ذاك الشيء مادة أو عاطفة ، و هو الإحساس الحقيقي بكمال العقل و انجلاء الرغبات ، و جميع مخلوقات الله تبحث عن هذا الاستقرار و ترجو تحقيق هذه الحالة في ذاتها ، و حينما أقول جميع المخلوقات فأنا أعني ذلك حق المعنى ، إن كل شيء قد يتصف بالوجود يبحث عن الكمال ، و الكمال هو الهدف الذي ترجو وصوله سائر المخلوقات سواء بوعي أو بلا وعي . قد يراه أحدهم في المال متجسداً ، فيفني حياته لسد النقص المادي وكسب الثروة ، و قد يرى شخص آخر أن الكمال في الجمال ، فيبحث عن هذه القيمة في كل شيء حوله . و من حكمة الله تعالى أنه زرع في أحشاء كل واحد منا نقصاً يريد قطعة فريدة لتملأه ، و مهما بحثت فإنك لن تجد إنساناً كاملاً أبداً ، لأن سنة الحياة ليست الكمال ، بل السعي إلى الكمال . السعي إلى الكمال هو ما ألف ذرة الهيدورجين على ذرة الأوكسجين ، كي تتحدا بمقادير منوعة بينهما ، و تجبر كل واحدة نقص الأخرى ، فنشأ الماء تتويجاً لهذا الاتحاد العظيم ، و جعل الله منه كل شيء حي .
النقص الذي يحرض على الكمال و يحث عليه هو السمة الأم في كل المخلوقات ، و مهما اعتقد الواحد منا أنه مكتف بحياته و نفسه فإن مجرد إحساس ينتابه بالجوع هو لون من النقص ، و مجرد احتياج للتفاعل مع المحيط هو لون آخر من ألوان النقص ، و لكن ماذا سيحدث إن لم يكن هذه النقص موجوداً في السجل ؟ و إن كانت كل ذرة مكتفية بنفسها أتم الاكتفاء ؟ سأخبرك أن الكمال الذي نبحث عنه و ننشده بشق الأنفس لو وجد فعلاً فإنه سيدمر الحياة ؛ ذاك لأن الكمال يعني انعدام الرغبات و الأمنيات ، و انعدام التمسك بحياة أو موت ، إن الكمال هو الاكتفاء الذاتي التام ، و هذه القيمة أكثر رعباً و هولاً مما قد تبدو عليه ، إن غياب الحوجة للآخر يليه تفكك المجتمعات و تداعيها ، و من ثم تدميرالحياة التي نشأت تتغذى على الاتحاد ، و هذا هو الوجه الحق للكمال .
لم يخلقنا الله كاملين و ذاك لأجل أن نتحرك و نعمر الكون بسعينا نحو الكمال ، و تظل رؤوسنا مرفوعة شامخة تطلعاً للغد ، خلقنا ناقصين كي نتفاعل مع الحياة و يحيى بداخلنا ترقب القادم المجهول ، فالحياة أساسها جبر و خطأ و إصلاح و نقص ، و لا يعني ذلك أن يفخر الواحد منا بنقصه و لا يحاول مداواته ؛ لأن القيمة و الهدف سيختفيان إن عزف الإنسان عن السعي و التقدم ، و سيصبح العالم مليئاً بالذرات الناقصة التي لا تود جبر نقصها . و حتى إن لم نكن كاملين فهذا لا يصدنا عن تحقيق بعض الاستقرار في حياتنا و أنفسنا ، و إن ذلك سيتحقق بقيمة أقل من الكمال و أعلى من النقص ، ومساوية للقيادة و السيطرة على هوى الذات ، و قد أسميتها قيمة النبل . النبيل هو من لديه الحزم و القوة الكافية لأخذ زمام حياته و التغلب على نفسه و وساوسه ، و قوة النبل هي قوة قهر الجسد و مقاومة الحاجة و النقص الدفين في الروح ، و ذاك النقص وقتها لن يزول و لكنه سيذل و يصبح مغلوباً عليه لا غالباً ، و هذا هو النبل الذي بوسع الأرضيين تحقيقه في ذواتهم إن ثابروا على ذلك . و الفارق الذي يحجز النبل عن الكمال هو أن الكمال يتمثل في عدم وجود النقص ، أما النبل فهو مقاومة هذا النقص مع وجوده وإخضاعه لفعل ما يقتضيه الصواب ، فالنبل إذاً أعظم من الكمال و أكثر روعة في الأرض ، و قد يكون هو القيمة الأرضية في حين أن الكمال هو القيمة السماوية التي لا تتجلى روعتها إلا في الإله رب السماء ، و قد شرع لنا عز و جل أحكاماً و مسؤوليات تربي نفوسنا و ترتقي بأرواحنا ، و أمدنا بالأديان و العبادات التي تهذب النفس و توصلها إن تمعنت في استشعار تلك العبادات إلى فضيلة النبل .
تعليقات
إرسال تعليق