الشتاء الأبدي
يركض بكل ما أوتي من جهد بأقدامه على رمال بيضاء و ثقيلة ، يجري كأنه ريح عاتية هبت من الشمال ، و دموعه تتطاير كبقايا أمطار في جو عاصف ، كان يرتدي معطفاً طويلاً أطلس اللون كأنه فراء ذئب ، و مركوباً يتجاوز الكعبين و يكاد يصل للركب من عظمه ، و وشاحاً يلفه حول عنقه و يتطاير خلفه كسارية علم ، و المؤكد من هيأته أيضاً أنه لم يكن سعيداً ، لم تكن ملامحه المكسورة و المبتلة بالدموع تبدي أي فرحة ، و من الحري لكل من يراه أن يلاحظ هذا الأمر في محياه ، و قد ظل هذا الرجل يركض حتى وصل لحافة جبل جليدي ، و كاد يسقط منها لو أنه تمالك نفسه في اللحظة الأخيرة ، فإذا به يتراجع قليلاً ، و إذا به يحدق بما تحت الجبل ، كانت غابات
ممتدة بأشجار مخروطية مكسية بالثلوج التي تتخلل ورقها الأخضر ، و قد كانت خضرتها بلا قيمة ، شعر الرجل بأن هناك كلمات عالقة في فمه ، بل من الأحرى القول أن قلبه هو الذي يحتجزها ، و ها قد أجبره جرحه على البوح بعد أن انبثق و ازداد ، أخذ نفساً عميقاً ثم صاح قائلاً بأعلى صوته :
ممتدة بأشجار مخروطية مكسية بالثلوج التي تتخلل ورقها الأخضر ، و قد كانت خضرتها بلا قيمة ، شعر الرجل بأن هناك كلمات عالقة في فمه ، بل من الأحرى القول أن قلبه هو الذي يحتجزها ، و ها قد أجبره جرحه على البوح بعد أن انبثق و ازداد ، أخذ نفساً عميقاً ثم صاح قائلاً بأعلى صوته :
تباً للخيانة .. تباً لقلة الأصل .. و تباً لكل غبي يثق بكل من هب و دب .. تباً للموت .. تباً للفراق .. و تباً للحب الذي يفعل بصاحبه الأسوأ .. إنني سئمت الحياة .. طاقتي نفدت .. لقد تخلى عني الجميع .. لقد تركوني وحدي .. لقد خانني من وثقت به .. و غادر عالمي من أحببته ، و لم يعد بي طاقة لتحمل ما يفعلونه بي .. ليس لي الطاقة التي تمكنني من إكمال حياتي بين هذا المحيط القاسي و اللئيم .. و ليس لي الطاقة التي تمكنني من تحمل هذا الضعف البشري داخلي .. الحوجة للعاطفة .. و التعطش للمشاعر .. و الجوع الشديد !!
استنشق بعض النسيم البارد ثم أردف بصوته المرتفع :
الجوع الذي يجعلني أقدم قلبي لكل خسيس يطلبه .. ليحرقه و يشويه أمامي بالنار الشريرة .. نار الغدر و الخيانة .. ليتني لم أمتلك قلباً و لا أحاسيس .. ليتني لم أعرف حباً و لا كرهاً .. ليتني لم أعرف دفء المشاعر لأبحث عنه هكذا بكل لهفتي .. كم أكره اللهفة .. و أكره الحب .. و أكره كل ما يزلزل كياني و يوقظ الضعف البشري داخلي .. يا ليتني لست إنساناً عاش بين أورطة مشاعر و هموم .. إغفر لي يا رب .. فقد تعبت و لم أعد أتحمل .. يا ليتني أكون أي شيء آخر ..
سالت دموعه غزيرة من مقلتيه كشلال متدفق من الأعالي الشاهقة ، و من ثم صاح صيحة عظيمة ، صيحة يكاد صداها يسمع إلى الآن ، و لم يكتفي بها إذ أنه فرد ذراعيه و دنا أكثر من الحافة ، و من ثم صرخ قائلاً :
ضمني إليك أيها الشتاء .. بصقيعك البارد .. و لهفتك المتجمدة .. و قلبك الأبيض الذي لا يحقد و لا يحب .. ضمني إليك أيها الشتاء .. أريد أن أكون مثلك .. ضيفاً يرحب به .. لا فرداً يتم الدهس عليه .. أريد أن أكون منك .. غطني بجليدك .. و احففني ببردك .. فإنك الحقيقة التي لا أريد الهرب منها إلى أي فصل آخر .. سأعيش في الشتاء .. سأعيش في فصل الشتاء ..
لحظتها هبت عاصفة ثلجية قوية ، هزته يميناً و تارة إلى اليسار ، و لعبت به و بأقدامه و رأسه ، و كأنها تحاول إيقاظه مما هو فيه ، فللحياة فصول أخرى يستطيع انتظارها ، و لكن يبدو أن الرجل لم يرغب في مغادرة الشتاء ، لأنه رآه أنيسه الوحيد ، فاضطرت العاصفة لحمله و رميه من سفح الجبل ، طيرته الريح ، و دفنته تحت الثلوج ، و في زمن من الأزمنة ، عندما حل الشتاء من جديد ، كانت عظامه قد اختلطت مع الثلج الأبيض ، و توارت بقاياه بين الرمال و البياض الناصع ، فإذا بأحد الأولاد الصغار يدنو و يصنع منه رجل الثلج .
تعليقات
إرسال تعليق