على أي جانب أقف ؟

أحدق فيه كل آن و في كل أوان ، فترتعش أجفاني ولهاً به و بتفاصيله الخلابة ، بشرته القمحية التي تماثل بشرتي في اللون و درجة النور ، و تبث الدفء ذاته  في نفس من يراها ، أنفه الذي لديه من الحدة ما يناظر أنفي بالتمام ، و شعره الأسود الذي لا يخالف شعري في شكله و رونقه ، لهذا الشخص صوت يشبه  صوتي في خشونته الفتية، و رقصته المرحة على الحبال ، و له أسلوب يقال أنه كأسلوبي في الحديث ، هادئ و منمق حيناً ، و ممتلئ بالغضب و الانفعال حيناً آخر ، إنه الأسلوب ذاته الذي أتبعه في حالاتي المختلفة ، التي تتفق في التوقيت مع حالاته المزاجية  هو الآخر ، إن ذوقه في الملابس يعجبني حقاً ، إنه بعيد كل البعد في زيه عن الألوان الصارخة المزعجة ، و عن السراويل الممزقة الشبابية ، يحب هذا الشخص ارتداء ثياب هادئة و وقورة تعبر عنه و عن شخصيته المستقلة ، بدون تقليد أعمى للثقافات السائدة التي تسيطر على العالم ، و لعله كذلك يفضل قراءة الكتب و تناول الشاي كما أفعل تماماً ، آه كم يشبهني هذا الفتى .. كم يطابق تفاصيلي و غير تفاصيلي .. كم يناظر مزاجه مزاجي .. و كم تتفق أفكاره مع أفكاري .. لدرجة أننا إن جلسنا معاً على قهوة و خضنا نقاشاً فلسفياً ، فإنه لمن المستحيل أن يثمر هذا النقاش أو يأخذ وتيرة ممتعة ، لأن كلينا يعلم أن كلينا يتفق مع الآخر فيما قاله و فيما سوف يقوله ، فالفرق بين الشخصين منا كالفارق بين الغيم والسحاب ، إنه  ليس كبيراً على الأرجح ، لدرجة أنني أحياناً أقول ، ربما نكون نفس الشخص !!   ألعله أنا ؟! .. يراودني هذا التساؤل من حين إلى آخر عندما أراه و ألاحظ الاختلاف المنعدم بيننا ، فأراهن أننا روح واحدة احتلت مكانين ، و لكنني أعود لأخسر الرهان أمام نفسي ، و أكبح هذه الفكرة السخيفة من خيالي المريض ، فكيف له أن يتصور أننا نفس الشخص ؟! ..اسأل الفيزياء .. الفيلسوف الغريب .. سيخبرك أنه من المستحيل على شخص واحد أن يوجد في مكانين في نفس الوقت !! و ليس هذا بالعجيب ، بل إن النفس لرفيقة نفسها طول الوقت ، و إن كان ذلك الفتى هو أنا فعلاً ، فلماذا لا أراه يسير معي للمدرسة ؟! .. لماذا لا يتناول فطوري معي ؟! .. و لما لا يساعدني  في الأعمال و الواجبات المرهقة ؟! .. أراهن أنني لا أراه مطلقاً .. إنني لا أراه و لا ألمح له أي ظل .. و لا يمكنني أن أسمع صوته و أعاين تفاصيله  !! .. مطلقاً لا أستطيع .. إنني أراه فقط في حالة واحدة ،  عندما أقف أمام لوح زجاجي مطلي من خلفه مخلى وجهه ، أستطيع حينها رؤيته و التحدث إليه ، و رؤية غرفته التي تشبه غرفتي كثيراً ..  أحرك ذراعي فيحرك ذراعه ، أبتسم فيبتسم مثلي ، و أعبس ليعبس هو بدوره ، إنه مطيع و قلود جداً ، إنه يفكر في كل ما أريد فعله و ينفذه معي بالحرف في نفس واحد ، و لكن عندما أطلب منه القدوم معي فهو لا يأتي .. إنه يختفي فور ابتعادي عن المرآة !! يختفي لحياته التي لا أعلم عنها شيئاً ..    في عهد نعومة أظافري و براءة روحي ، كنت أخاف للغاية من ظلي ، كان يستمر في اللحاق بي لأي مكان ، ما عدا الأماكن المظلمة فقط ، في ذلك الوقت فكرت أنه روح شريرة ، تخاف من الظلام و تؤثر الابتعاد عنه ، و حتى بعد أن كبرت و عرفت مدى غبائي ، لم أزل غير مطمئن لكل تلك الأشياء ( الشبيهة ) ، كل تلك الأمور التي نقيس بها نظرتنا لأنفسنا لم تكن تطمئنني ، لم أحب كوني شبيهاً لأحد ، و لا كون أحد ما شبيهاً لي ، لهذا فقد حمدت الله كثيراً لأنه لم يرزقني بتوأم ، و لكن ذلك لم يجعلني سعيداً تماماً ، إذ لا يزال شبح المرآة ذاك يثير دهشتي ، قيل لي هلاوس ، و قيل أنه جنون ، و لكني لا أثق بذلك تماماً ، الفتى يطابقني و لديه نفس أفكاري  و هيئتي ، إنني لا أخاف من كونه شبيهاً لي ، مطلقاً لا يرعبني ذلك .. بل أخاف من شيء أسوأ و أعتى مراراً ، و هو أن أكون أنا من يشبهه .. !    أخشى أن ابتسامتي هي تقليد لابتسامته ، و أن وجهي هو لوحة ترسم وجهه ، أخشى أن أكون أنا المقلد الذي يرتدي الثياب ذاتها و يحاكي الصوت نفسه ، و أخاف أن حياتي برمتها ليست سوى وهم ، وهم اختلق من فراغ الزجاج و تجمع من فيزياء المادة ، ليعكس خيال شخص آخر ، أخشى أن يكون هو الأصل ، و أنا مجرد انعكاس ..       




تعليقات

المشاركات الشائعة