قصة جميلة
"إنني لست بمجرمة ، إنني لست بمجرمة ، لكن قلبي هو المجرم ، عليه اللوم هذا الخسيس ، عليها اللوم الظروف ، عليها اللوم الأحداث المترابطة ، التي تحوك للإنسان قصة لا يريدها ، إنني لست بمجرمة ، إنني فقط أتمنى أن أغادر هذه القصة ، إنني أتمنى ألا أكون بطلة لهذا الفلم الذي لا يعجبني ، و الذي تسير كل أحداثه على النحو الذي لا أريده ، كل المؤشرات تقود السفينة لميناء آخر ، ميناء يختلف عن الميناء الذي أريده ، و ليست هذه بالمصيبة ، المصيبة أن قلبي المهزوز يوافق على هذا الاتجاه ، قلبي يميل لما اختارته لي أحداث القصة ، شخصيتي تتطابق مع كل الأحداث و الظروف ، الجميع متناغم كمفاتيح بيانو تغني معاً أغنية مرتبة الإيقاع مزدوجة الأحاسيس ، الأيام البيضاء و السوداء ، و جميع البشر في حياتي ، الجميع يغني معزوفة واحدة ، الجميع يلعب إيقاعاً واحداً ، لكنني لا أريد أن أعزف معهم ، أنا أريد التوقف عن العزف ، أريد أن أتوقف عن عزف هذا اللحن ، أنا لست بمجرمة ، أنا سأقتل أغنيتي ، أغنيتي أنا فقط "
رفعت سلاحها في وجهه ، رفعت سلاحها بذراع ترتعش خوفاً و تأبى ذلك ، و بأعين تفيض دموعاً و تعارض ذلك ، و بقلب يتمزق و يصرخ بكل قوته ، معارضاً لذلك ، كانت كل خلية منها ترفض ما تفعله و ما ستقدم عليه ، و لكنهمم جميعاً لم يكونوا قادرين على الاعتراض ، لأنهم يعزفون بقيادة الرأس ، الملك الذي يعيش تحت الجمجمة ، إنه العقل ، و ليس بعقل عادي و راسخ ، كان عقلاً مجنوناً ، و بدونه لكان حال الفتاة أفضل كثيراً ، رفعت مسدسها في وجه الشاب الذي كان مذعوراً أيما ذعر من فعلها المفاجئ الغريب ، فانطلقت تلك الكلمات من فاهه تعبر عما بداخله : ريما .. ماذا تفعلين ؟
ضحكت ، ضحكت بجنون و قد بكت أعينها و بكى قلبها ، ضحكت و قالت له :
ماذا أفعل ؟ .. أتعلم ماذا أفعل ؟ .. أنا أتخلص من البطل .. أتخلص من البطل الذي يفترض أنه سيتزوجني في المستقبل .. أنا أفسد القصة !! .. أنا أفسد القصة !!
ابتلع الشاب حسن ريقه بخوف و هو في قمة استغرابه و حيرته ، حدق فيها ، حدق داخل عينيها لأنه لم يكن متأكداً إن كانت ريما هي من تقف أمامه ، ريما الفتاة الهادئة كالبحر الرائق ، التي لها من العقل ما يزن دولة بأكملها ، ما الذي أصابها يا ترى ؟ .. هل فقدت عقلها ، هل ثقل على رأسها أن يحمله فتخلص منه و رماه ؟ .. ماذا حل بك يا ريما ؟ .. ماذا حدث لك؟ ..
همس قائلاً بأحرف تخرج من فمه بصعوبة :
ر .. ريما .. ماذا يجري ؟ .. هل هذه مزحة ؟ .. أم أنك فقدت عقلك ؟ .. عما تتحدثين ؟!
ابتسمت بوجع و هي تستمع لكلامه ، لقد تمنت أيضاً أن تكون هذه مزحة ، ليست هذه بمزحة ، لقد فقدت ريما عقلها بالفعل ، و هي أول مجنون يعترف بجنونه ، إنها أول من يدرك بأن عقله خرج عن السيطرة ، و يستمر في تحويل حياته إلى جحيم ، تحدثت قائلة بمنتهى الحزن :
أنا آسفة .. آسفة لك يا حسن .. آسفة لأنك جزء من كل هذا .. لكنك البطل الذي سيتزوجني .. هكذا يقول السيناريو .. و أنا لا أريد هذا الزواج .. أنت لست الشخص الذي أرغب به .. أنت لست بالمواصفات التي أتمناها .. لهذا أريدك أن تعذرني .. لأنني مضطرة لقتلك الآن .. قبل أن أتزوجك في المستقبل .. سأنهي حياتك الآن .. سأنهيها للأبد .. و سأعثر على شخص أفضل منك ليشاركني البطولة ..
فغر فاهه بغير تصديق لكل ما يسمعه ، كان يعتقد قبل قليل أن ريما فقدت عقلها ، و لكنه لم يعد يعتقد ذلك الآن ، بل أصبح متأكداً تماماً ، إنه الآن يقف بمحاذاة فتاة مجنونة تهدده بالسلاح و تتفوه بتراهات غريبة ، و إن لم يجد حلاً فإن حياته ستنتهي ، ستنتهي على يد فتاة مجنونة ، في ليلة أكثر جنوناً ، و في ركن على حافة طريق مظلم ، لو كان يعلم أن هذا سيحدث له لما غادر منزله هذا اليوم ، كان سيستمع إلى كلام أمه و يظل في البيت ، لم يكن سيخرج لشراء المشروبات في هذا الوقت المتأخر ، و لم يكن سيعبر هذا الشارع الذي لا يعيش به سوى القلة من القليل ، معظمهم من المرضى و العجائز ، و قد كانت ريما تعيش هنا ، ندم لحظتها لأنه غادر المنزل ، ندم للغاية ، لكنه قرر تخليص نفسه بأي سبيل يتيسر ، حتى و إن عنى ذلك مجاراة هذه المجنونة في الحديث ، فقال لها و هو يرفع يديه محاولاً وضع بعض التراب على النار الملتهبة :
اهدئي .. اهدئي يا ريما .. أنا لا أفهم ما ترمين إليه .. و لكن إن كنت متضايقة مني لأي سبب من الأسباب .. فإن قتلي لن يفيدك .. ما رأيك .. ما رأيك أن تخفضي سلاحك الآن .. و نذهب لنجلس في أي مقهى قريب .. و أعدك أنني سأنفذ كل طلباتك ..
صرخت ريما فيه قائلة : أنا لا أريد أي مقهى .. أعلم ما تفكر فيه .. أنت ستستدرجني للمقهى .. وأعلم ما سيحدث بعدها .. أستطيع توقع الأحداث التالية في القصة .. سنتحدث قليلاً و ستحاول تهدئتي .. ثم سنقع في الحب .. و ستتزوجني !
صاح بها قائلاً و قد ضاق ذرعه لأقصى حد :
أنا لن أتزوجك !! .. ريما أنا لا أعرفك أصلاً .. أنت بالكاد زميلتي في الجامعة .. من أين تأتين بهذه الأفكار المجنونة ؟
وضعت يدها على قلبها و هي تنظر في كلماته بتمعن ، كانت تعلم أشياء لا يعلمها ، كانت تدرك أموراً لا يصل لها حد تفكيره ، ريما كانت تشعر شعوراً قوياً بكل ما سيحدث لها ، و إحساسها لم يخب أبداً ، كل ما كانت تتوقعه منذ قديم الزمان ، كان يحدث ، إنها لا تختلق أفكاراً لا أساس لها ، أحداث القصة و قوانين الأرض المترابطة تحكي لها كل شيء ، كل شيء قبل أوانه ! لفت رأسها إلى الناحية الأخرى ثم خاطبته بصوت محطم :
حسن .. منذ طفولتي و أنا أحلم بفارسي .. لقد تمنيت أن يكون شخصاً وسيماً و غنياً .. لقد تمنيت و حكت سيناريوهات مميزة لتجمعني به .. رغبت في أن يكون فتى أشقر أجنبياً .. و غنياً و مغروراً للغاية.. كان سيكون مديراً للشركة التي سأعمل فيها بعد تخرجي من الجامعة .. سأعمل في دولة أجنبية .. سأعثر على عمل في شركته .. و من ثم سأكون سكرتيرته الخاصة .. و سيحاول مضايقتي و التكبر علي .. و لكنني لن أمنحه فرصة لذلك .. سأقف في وجهه و أكون فتاة قوية .. و سأخبره بأن كرامتي هي كل شيء .. و حتى إن امتلك مال قارون فإنه لن يتمكن من شرائي و إهانتي كما يحلو له .. حينها سيعجب بي ذلك الشاب .. سيعجب بي و بقوتي و جمالي .. و لن يطردني رغم أنني صرخت في وجهه .. و شيئاً فشيئاً سيقع في حبي و في حب تفاصيلي .. ثم سيتزوجني .. نعم يا حسن .. هذا ما كان من المفترض أن يحدث لي .. هذا السيناريو الذي تمنيته .. قبل أن تأتي أنت يا حسن .. و تصطدم بي لنسقط معاً عند رواق الكلية .. تسمر و قد خطفه الذهول من كلماتها ، خطفه لذلك الحد الذي أبقاه صامتاً ، و أنساه أي ردة فعل يمكن أن تتخذ الآن ، أردفت ريما بعد أن أخذت نفساً عميقاً :
في المسلسلات و الأفلام ، حين يصطدم شاب و فتاة فإنهما سيقعان في الحب ، و سيتزوجان بلا ريب ، و قد اصطدمت بك يا حسن ، لقد سقطت أوراقي على الأرض ، ثم سارعت متعجلاً لتعينني على تجميعها و أنت تعتذر مني ، و عندما كنت تقوم بذلك تلامست أيدينا عن طريق الخطأ ، و حدقنا في بعضنا لبضعة ثوانٍ ، أدركت حينها أنك الفارس الذي كنت أحلم به ، و لكن ليس كما أحلم به ، رأيتك شاباً خشن الشعر ، بنظارات طبية و ثياب فقيرة و غير ملائمة للموضة ، و كنت مهذباً و مثالياً جداً ، لست الفارس الذي تخيلته يا حسن ، لقد دمرت أحلامي بعد أن عاهدت نفسي ألا أقع في الحب إلا عندما تبدأ قصتي الرومانسية في بلاد الخارج ، و مع الشخص الصحيح الذي أردته و حلمت به ، و هو ليس أنت بالطبع يا حسن .. لست فارس الأحلام الذي أريده .. لماذا ظهرت في حياتي و خربت كل شيء .. الآن أنا و أنت سنتزوج .. أتفهم خطورة ذلك ؟!
لهثت بتعب و إجهاد ثم رفعت المسدس بثقة أكبر و وجهته إليه قائلة :
لهذا أنا سأقتلك يا حسن .. سأقتلك كي تغادر صفحات قصتي .. سأقتلك لأنني لا أريدك أن تكون البطل .. لن تكون بطل قصتي يا حسن .. لن تشاركني البطولة أبداً .. سأقتلك كي أنتهي من أمرك .. و أحصل على القصة التي أريدها مع البطل الذي أريده !
فجأة تندت ضحكة عالية من حسن ، ضحكة كسرت السكون الذي كان يستمع به إليها ، ضحك بقوة و لهفة حتى دمعت عيناه ، ضحك كما لم يضحك في حياته من قبل ، ثم قال مخاطباً لريما التي ذهلت من ردة فعله : لا داعي لكل ذلك أيتها البطلة .. لا داعي لتجهدي نفسك و تقتليني .. أنا سأغادر قصتك أيتها البطلة .. و لن أكون عائقاً في طريقك أبداً .. أعترف بأن كل ما قلته صحيح رغم كونك مجرد مجنونة كما يبدو .. لقد أعجبت بك في تلك اللحظة التي التقت فيها أعيننا و تلامست أصابعنا عند رواق الكلية .. أعجبت بك و تحول هذا الإعجاب مع الوقت إلى حب .. و فكرت كثيراً في التقدم لك و خطبتك لأنني شخص جاد و لا أحب العلاقات السخيفة .. كنت أعرفك و أعرف هدوءك و طبعك إثر مراقبتي الطويلة لك .. أو كما ظننت أنني أفعل .. لهذا فقد اتخذت قراري و فاتحت أمي في هذا الأمر .. و كنا سنأتي لزيارتكم غداً و التقدم لك .. و لكنني عرفت إجابتك الآن .. عرفت أنك لا تصلحين لي .. و لا تصلحين لأحد ..
فغرت ريما فاهها و هي تنصت إليه بقلب مفطور ، فابتسم لها ابتسامة هادئة و أردف قائلاً :
أنا لست نادماً لأنني خرجت من المنزل هذا المساء .. لقد قدر الله لي ذلك كي ألتقي بك و أعلم حقيقتك و كل ما تكنينه مبكراً .. قبل أن يحدث شيء رسمي بيننا .. الله أراد لي الخير يا ريما .. و مهما عاصرتنا الأحداث الصعبة و غير المرغوبة بالنسبة لنا .. فعلينا أن ندرك أن الله لا يريد بنا أي سوء .. الله لا يمكن أن يضع شخصاً ما في القصة الخاطئة التي لا تناسبه .. أليس كذلك؟.. أيتها البطلة ؟..
تفوه بهذه الكلمات التي لم يرمها على الهواء ، بل رماها داخل قلب ريما و داخل عقلها ، كسرت هذه الكلمات تفكيرها و أعجزت جنونها الذي ظنته عبقرية و تفرساً ، غادر حسن ، التف و غادر ليختفي في الظلام ، بعد أن ترك داخل قلب ريما أثراً لا يمكنها أن تنساه أبداً ، شعرت بالذنب الشديد ، شعرت بالحزن يمتص دواخلها و لكن ليس على قصتها ، بل على حسن ، حسن البطل الذي اكتشفت الآن أنه كان الأفضل لآداء هذا الدور ، و لكنها بحماقتها جعلته يعتزل التمثيل في مسرحيتها ، أضاعته من بين يديها و جعلته يرحل ، عضت أناملها بقهر كبير و من ثم همست قائلة :
ريما .. كم أنت شخصية سيئة .. إنك لا تستحقين التمثيل في هذه القصة .. أنت لا تستحقين دور البطولة .. و لا حتى حياتك ..
رفعت المسدس و وجهته بمهل نحو رأسها ، ألصقته بمحاذاة عقلها الذي عذبها جداً ، ابتسمت بألم و قالت :
أسدل الستار
تعليقات
إرسال تعليق