البليد
فتح جفنيه و ضيقهما بصعوبة ليتمكن من تجميع بعض الصور المشوشة التي تحيط به ، بدا كل شيء لوهلة و كأنه قد رسم بقلم رصاص ثقيل ، قاربت سنته على النفاد فأصبحت ترسم و تظلل كالفحم المشوش عديم التفاصيل ، كانت الرؤية غير واضحة تماماً ، و لم يكن ذلك ليثير عجبه كثيراً ، حرك يده لتلتصق بسطح أملس ، ثم بدأ يتحسس هذا السطح و كأنه يبحث عن شيء ما ، حتى قبضت أصابعه عليها أخيراً ، وضعها لترتكز على أذنيه ، ثم أبصر العالم بجودته الطبيعية ، أبصر جدران غرفته الضيقة ، و خزانته الصغيرة التي تحتوي على الكتب و الثياب معاً في آن واحد ، ثم أبصر طاولته التي يجلس إليها ، كانت طاولة خشبية معدمة الزخارف و الزينة ، بها العديد من الكتب و الأوراق و الدفاتر ، التي كانت مكومة إلى طرف الطاولة ، و كأنها تنتظر من يقرأها و يرتبها منذ البارحة ، حدق بتركيز و حك شعره و هو يتذكر اللية الماضية ، يبدو أنه قد نام أثناء الدراسة بلا قصد ، و ذلك الخطأ لم يرق له أبداً ، فتنهد بضيق و خيبة رافعاً رأسه إلى السقف ، لم يكن حسن معتاداً على النوم أثناء الدراسة ، و لكنه أجهد نفسه كثيراً ليلة البارحة ، لقد كان يذاكر الرياضيات ، تلك المادة اللعينة التي تصر على تعذيبه و تعجيزه مهما فعل ، كانت علاماته كاملة في جميع المواد ما خلا الرياضيات ، و لم يكن يدرك سبب ذلك تحديداً ، أو لعله لم يشأ الاعتراف فقط ، رغم كونه الطالب الأكثر تفوقاً في صفه ، و لكن لطالما كان الحساب يمثل مشكلة عويصة تؤرقه ، كان يستطيع التفكير في أعمق الأمور و أغربها ، كان بوسعه تركيب نظريات لا تخطر على البال ، و لكن عندما يتعلق الأمر بالحساب و التعامل مع الأرقام فهو يرفع يديه و يشعر بالهزيمة ، الأرقام تتمثل له على هيئة منطقية و واضحة جداً ، واضحة لذلك الحد الذي يجعلها مستعصية ، الأرقام لا تعفو عن زلة ، و لا تعرف لغات أجنبية ، ليست سوى رموز مرعبة ، رموز معقدة التهكن ، و هذا ما يثير حفيظته و يزعجها ، كان يتساءل كثيراً عن سبب كونه غبياً في هذا الأمر ، و يعجز عن إدراك سبب آخر سوى كونه غبياً و حسب ، غبي .. إنه اللقب الذي لن يفارقه أبداً ، رغم أنه يشكل أسوأ كوابيسه ، و يستفز مكامنه لحد كبير ، و السبب غير واضح له بالمرة ، البعض لا يحبون أن ينعتوا بالجبناء ، و البعض الآخر يمقتون أن ينعتهم أحد بالقبح و عدم الجاذبية ، و لكن حسن لم يكن يكترث لأي من ذلك ، كان فقط يكره أن يناديه أحد بالغبي ، الغباء هي الصفة التي يمقتها من بواطن دماغه ، الغباء هو التهمة التي لا يريد أن تلصق به مهما كان الثمن ، و مهما مر من زمن .. سرح متأملاً سقف غرفته الأبيض الذي صبغه الغبار بلونه الترابي ، أطال النظر لذلك السقف و لتفاصيله التي حفظها عن ظهر قلب ، و لكنه رأى فجأة شيئاً غريباً لم يسبق له أن لمحه ، و لم يعهد وجوده أبداً ، رأى بقعة مضيئة غريبة تتوسط كومة الغبار ، سمع أصواتاً مألوفة تصدر من هذه البقعة ، و بدأ يرى صوراً مشوشة ، باهتة اللون ، و مطموسة التفاصيل ، كانت صوراً من غبار الذكريات رأى طفلاً صغيراً في المدرسة الابتدائية ، كان يشبهه جداً ، و لعلهما نفس الشخص فحسب ، كان الطفل نائماً على طاولته باسترخاء ، يعلو صوت شخيره و همهمات نومه ، ثم إذا بالمعلم يقترب منه و يصيح به قائلاً : حسن !! .. أيها الفتى الغبي !! رأى العديد من الذكريات الشبيهة لهذه الذكرى السوداء المحنطة في عقله ، تذكر هيئته التي كان عليها و هو طفل ، كان ولداً كسولاً جداً ، و لم يكن جيداً أبداً في الدراسة ، كان يحرز علامات متدنية للغاية تؤهله ليكون في المركز الأخير ، و قد لقبوه في المدرسة بحسن الغبي ! و لم يكن الطفل الغبي سعيداً جداً بذلك ، و قد زاد عليه الهم يوماً بعد يوم ، و امتلأت دواخله بالطاقة البنفسجية ، الطاقة التي سيطرت عليه أكثر و زاد عبؤها على صدره ، حتى احترقت و غيرت كل شيء ، احترقت لتحفزه و توقظه من النوم ، و بدأت تعمل على مساعدته كالملاك الحارس بعد أن كانت شيطاناً ينكد حياته ، لقد نبذ ذلك الطفل كسله و بدأ يجد في دراسته ، و ذلك منذ دخوله للإعدادية ، لقد غير نظامه الغذائي ، و أصبح كائناً يعيش بين الكتب ! و شيئاً فشيئاً تحول الخفاش لمصاص دماء ، و احمر لون الطماطم الخضراء ، و استحال حسن من الطالب الكسول للطالب الأكثر تفوقاً على صفه بالكامل ، صار يحرز أعلى العلامات ، و يحصل دائماً على الهدايا و الثناء ، و لكن ذلك لم يكن ليهمه بقدر ما يهمه ألا يكون غبياً ! .. و لا يعود لصفوف البلهاء .. كان أصدقاؤه يدعونه بالنرد ، و أحياناً بدودة الكتب ، و لكن تلك الألقاب كانت أرحم عليه من لقب حسن الغبي ، الذي لم يعد يسمعه بعد الآن ، و رغم ذلك بقيت تلك المشكلة الصغيرة التي كان عليه التعامل معها و قد عجز ، إنها مشكلة الأرقام .. و مهما بذل من الجهد في سبيل علاجها لم يتمكن من ذلك ، لعله لم يعد الغبي الذي كان عليه أيام النوم في الحصص ، و لكنه يتمتع بما يكفي من البصيرة ليدرك أنه مهما فعل فلن يزيد على كونه قد تجاوز الغباء ، من المستحيل أن يصبح العبقري! .. لن تبلغ حدة نظره ذلك الحد ..
تعليقات
إرسال تعليق