خراف النوم

كان الأرق قد أعيى أجفاني و حطم لياقتي تماماً ، كنت أشعر بأن العالم حولي يدور و يدور ، شعرت للحظات أنني قابع داخل كرة مكورة تدور حول نفسها طوال الوقت و بلا توقف ، و لكنني قاومت بذكائي تلك الأوهام و قد علمت أنني لست في وضع تؤاخذ عليه أفكاري ، فالجوع و السهر و التعب ، كلها كانت مكونات لذيذة للعشاء الذي تناولته الليلة ، لهذا فقد أصبحت في كامل إجهادي الآن ، حتى أنني بدأت أتخيل أموراً غير منطقية و ما لها وفاق مع الواقع ، لقد رأيت نجمة تتحرك و تسقط من السماء ، و كأنها ملت من الاضطجاع في الأعلى و قفزت إلى الأسفل ، و كأنها تظن أن الحياة في الأرض أفضل من السماء ، ويحها تلك النجمة المسكينة عندما تصل إلى الأرض وتكتشف أن عليها تدبير العشاء كل يوم و مواجهة الصعاب ، و لم يكن ذلك كل ما رأيته في ليلتي السوداء ، لقد أبصرت بعيني طائراً يشع أضواءاً حمراء و يترك خلفه أثراً من الغيوم ، تمكنت من رؤيته بوضوح لأن السماء كانت صافية حينئذ ، و هذا أمر غريب و مستحيل التصديق ، و لم يكن هذا كل شيء ، لقد أبصرت بعد وهلة ما هو أعجب ، أبصرت بعيني شرارات و ألواناً تتفرقع و تتفجر في السماء ، مخلفة آثاراً و أشكالاً لم أرى قط في حياتي مثيلاً لها ، كانت ساحرة لحد يفوق الوصف .. وقد علمت عند رؤيتها أنني أهذي ،  لهذا فإنني مع مشاهدتي لكل تلك العجائب تأكدت أن عقلي غائب ، و أن الجوع و التعب يعملان جيداً  على إبقائي غبياً تماماً .. و لكنني لم أتيقن من هلاك قواي حتى رأيت ما رأيته بعدها ، لقد رأيت عجيبة تفوق سابقاتها  .. أبصرت عند ذلك السياج البعيد الذي كان يحد مزرعة حصينة ، مزرعة لم يسبق لي أن رأيت ما بداخلها ، أبصرت عن كثب كائناً مغطى بالصوف يقال له الخروف ، قد قفز من السياج مرة واحدة !   لم أكد أستوعب ما حدث و ما رأته عيناي حتى قفز خروف آخر من نفس السياج ، و قفز ثالث و رابع و خامس ، و استمرت الخرفان تقفز بلا توقف ، و أنا أراقبها عن كثب و قد غاب عقلي من الفرحة و الحيرة في الوقت ذاته ، كنت محتاراً من هذا الكم الهائل من الخرفان ، الذي مهما حاولت مجاراته في العد لا ينتهي ، و كنت محتاراً كيف لها أن تقفز من هذا السياج الذي حاولت أنا بنفسي اختراقه و القفز دونه و لكني لم أقوى عليه ، كنت محتاراً و مشتتاً و سعيداً جداً ، لأنها المرة الأولى التي أرى فيها خرافاً بهذا العدد الكبير ، تقفز من سياج ، و تستمر في القفز ليزيد عددها بلا توقف ! . . سال لعابي كالصنبور المفتوح ، و اتسعت عيناي بشغف و نشوة ، و بدأت أشحذ أنيابي و أنا أتخيل الطعم اللذيذ الذي سأتملى به بعد دقائق ، و ما إن عزمت على الهجوم حتى تراجعت و قلت لنفسي : لعلها مجرد هلوسة ، لعله محض سراب ، و ليس من العقل أن تتعلق بشيء لا تعلم هل هو حقيقة أم خيال ، الرأي أن تذهب لتلك الخرفان و تكلمها بنفسك لتتأكد من حقيقتها ، فإن خاطبتك بلغة الحيوان فإنها حقيقة ، و إن لم تفقه حديثك فما هذا إلا سراب أو جان متلبس بهيئات خراف ، فاذهب و تحدث إلى أحد تلك الخراف لتعلم أمرها ..   استمعت إلى صوت عقلي و نهضت لأدرك هذه الخراف التي كانت لا تزال تتزايد و تقفز من خلف السياج ، فلما وصلت إليها لاحظت أنها جميعاً لا تهابني و لا تخاف مني ، لأن أحداً لم يبد ردة فعل عند رؤيتي ، أشعرني ذلك بالقشعريرة و الخوف ، فليست عادة الخراف ألا تخاف من الذئب  .. هل يعقل أنها مخلوقات أخرى ؟   ابتلعت خوفي واقتربت من أحدها و ناديته قائلاً :    هييه .. يا أخ ..   إلتفت إلي الخروف بملامح منشرحة و اقترب مني بدون أي حاجز رهبة ، و أنا أتأمله فاغراً فاهي من موقف يحدث لأول مرة ، سألني ذلك الخروف عند اقترابه مني :    أهلاً .. من تكون يا هذا ؟ .. هل أنت خروف مثلنا أم أنك كلب ؟   انتابني إحساس فظيع بالإهانة و الغضب من كلامه ، و قلت هل من المعقول أن هذا الخروف الحقير يسخر مني ؟ .. و لكنني تماسكت و أجبته بهدوء :    معك الذئب ..   لم يبدو على الخروف الأبله أي بوادر خوف ، بل إنه حدق بي في ثقة و قال : الذئب .. ما سمعت بهذا الاسم من قبل .. كما أن هيئتك غريبة قليلاً ..    ضحكت بسخرية و تعجب في ذات الوقت من كلماته ، أمن أحد لم يسمع بالذئب ؟ .. قررت أن أتجاهل مزحته السخيفة و قلت : حسناً حسناً دعك من هذا .. أخبرني ما الذي تفعله أنت و رفاقك هنا في هذا الوقت ؟.. و لما عددكم كبير هكذا ؟    و لماذا تقفزون من السياج ؟    أجابني الخروف قائلاً بحماس :   إنك لا تدري يا سيد ذئب .. اليوم هو يوم المنى و الهناء .. لقد حصلنا على حريتنا أخيراً ..    لقد غادرنا المزرعة !   امتعضت و شعرت بالعجب من كلامه الذي لم أفهم منه شيئاً ، و عدت لأسأله :    و .. لماذا غادرتم المزرعة ؟   رد علي الخروف :   لأننا نريد حريتنا .. تخيل أننا كنا نعيش طيلة حياتنا داخل تلك المزرعة ، و لم نرى ما خلف سياجها أبداً ، لقد كنا محتجزين هناك طوال حياتنا الرتيبة ! .. و أخيراً تذوقنا طعم الحرية !   سألته بضحكة و أنا أسخر من حماسه :   الحرية ؟ .. و ما هي الحرية ؟   بدت الدهشة واضحة على الخروف الذي قال :    ألا تعرف ما هي الحرية ؟!   قلت له و أنا أشحذ أنيابي بلهفة : و هل جرت العادة أن نسأل عن أمور نعرفها ؟   تسمر الخروف قليلاً ثم تحدث ليقول : الحرية .. الحرية هي العيش خارج سياج المزرعة ..   هززت رأسي باقتناع فأنا لم أكن قد سمعت بهذه الكلمة من قبل ، ثم سألته قائلاً :    و كيف كانت حياتكم في المزرعة ؟ .. هل هي سيئة لهذا الحد ؟   رد الخروف قائلاً :    ليس تماماً .. لم يكن المزارع شخصاً سيئاً .. كان يطعمنا في الصباح و يسقينا في المساء ، و عند حلول الظلام يخلد الجميع للنوم . ..    اندهشت مما يقوله و سيطر علي العجب تماماً ، و عبرت عن ذلك قائلاً :    أأنت أبله ؟ .. أتقول أنه يطعمكم كل يوم و يسقيكم ؟ .. ما الذي ينقصكم إذاً ؟.. إنها الجنة يا مغفل ! .. أنتم تغادرون الجنة !   حدق بي الخروف و أجاب بعد سكون :    ليست الجنة تماماً .. لقد كان هناك ما هو ناقص .. كانت الحياة رتيبة للغاية .. كل يوم يشبه اليوم الذي يليه ، و لم نكن نقوم بأي شيء مميز ، بعضنا كان يتم حلبه ، و البعض الآخر يتم ذبحه فيغادر الدنيا و قد عاش و مات وراء السياج ، كنا جميعاً نشعر بالإذلال و الملل من الحياة ، إننا لم نرغب بأي جنة ، أردنا فقط أن نتخلص من هذا العبء الذي كان يكمكمنا ..   قلت و أنا أطالعه بسخرية :    فعزمتم على القفز من السياج ..    رفع الخروف رأسه و قال متأملاً :    إنها حكاية طويلة .. لم تبدأ بنا نحن .. فمنذ قديم الزمان و أجدادنا يحلمون بما هو خارج السياج ، كانوا يؤلفون القصص و الأساطير ، و يضعون الاحتمالات و التوقعات ، البعض كان يفترض وجود الوحوش العملاقة ، والبعض الآخر كان يفترض وجود أماكن أكثر جمالاً من المزرعة ، و لكن أحداً من عشيرتنا و أجدادنا لم يجرؤ على القفز بنفسه و رؤية ما هو خارج السياج ، لا أحد امتلك الجرأة ليخاطر بالحياة المستقرة في سبيل اكتشاف المجهول ..   هززت رأسي و أنا أنصت إليه ، فأردف قائلاً :   حتى إن فكر أحدنا في الهرب ، فإنه لن يتمكن من ذلك ، لأن بوبي الكلب حارس المزرعة لا يغفل عن شيء ، إنه يبقى مستيقظاً طوال الليل ، يحدق بمقله الجاحظة و نظراته المتوحشة في كل من يغدو و يروح ، و ليس بوبي هو الوحيد ، بل نعنع و نباح و ألكس ، جميعهم و أكثر ، كان المزارع يوظفهم للحراسة ، إنهم شرسون و مخيفون حقاً ،    سألته بفضول اعتراني : و كيف تمكنتم من الهرب اليوم ؟   أجابني محدثاً :    لقد اتفقت أنا و رفاقي على إعداد خطة محكمة للهرب ، و قررنا المخاطرة و تنفيذها رغم كل ما تحمله من صعاب و مجازف ، و بعد أن وضعنا تلك الخطة أبلغنا كل الخراف في المزرعة ليساعدونا و نعمل يداً بيد ، بعضهم كان خائفاً و بعضهم كان متردداً ، لكن فضولهم و شغفهم تغلب على هذا الخوف ، و مضينا قدماً في تنفيذ الخطة ..  كنا نعلم من معاشرتنا للكلاب أنها إن أكلت كثيراً فستصاب بالتخمة و تنام ليلها بعمق .. فسرقنا مخزون اللحم الذي كان المزارع يخفيه من جثث أصحابنا .. و اضطررنا لاستخدامها طعماً لأجل الكلاب ، فدعوناهم لوجبة كبيرة و فاخرة ، و أكلت الكلاب كثيراً حتى أصبحت ثقيلة و متخمة ، و ما لبثت حتى نالها التعب و نامت منذ مغيب الشمس .. و هكذا أصبح الطريق سالكاً لنا ..   صمت قليلاً ليأخذ أنفاسه ثم قلت أحثه على الكلام :    ها .. و ماذا حدث ؟   أردف مكملاً كلامه :    قمنا بترتيب الأعشاب و وضعها في كتل متراصة ، و كانت الخطة أن يصعد كل منا واحداً واحداً بحذر و هدوء ، كي لا نلفت انتباه المزارع و لا تتدمر كومة الأعشاب ، و أخيراً تمكنا من ذلك ، نجحت خطتنا و خرجنا من أسوار المزرعة !كم أشعر بالسعادة البالغة لأننا حققنا حلم أجدادنا ! .. أخيراً .. سيصبح لنا نصيب في الحياة الخارجية و سنتذوق طعمها ..   ابتسمت و خاطبته قائلاً :    لم أدرك أن الحرية هي شيء مهم أو موجود أصلاً ..   علق الخروف على كلامي قائلاً :   هذا لأنك عشت حياتك في الخارج يا سيد ذئب ، يصعب أن يدرك الحلاوة إلا من ذاق طعم المرارة ، و من أنعم الله عليه بنعمة فإنه يراها شيئاً طبيعياً كشروق الشمس كل يوم ، و من الصعب أن يحس بقيمتها إلا إذا فقدها ..   تسمرت في كلماته لدقيقة ، ثم قلت له :    و لكن أتعلم .. لا تظن أن الحياة سهلة خارج السياج .. أنت أيضاً ضحيت بنعمة الأمان و الرزق الموفور ..    قال الخروف بلا مبالاة :    فاليكن ، إنه ثمن الحرية و سأدفعه !    و في لحظة كانت كالبركان الذي تفجر في منتصف محيط هادئ ،  سمعت صوت نباح كلاب شرسة و أضواء تشق العتمة ، و ما إن سمع الخروف ذلك حتى ركض مبتعداً عني ، أما أنا فقد فزعت عندما رأيت أحد الكلاب يندفع نحوي و هو ينبح بشراسة مخيفة ، ثم ينقض علي و يخوض صراعاً معي ، كان صراعاً قوياً و فتاكاً ، و لم أصدق أنني خرجت منه حياً ، لقد نفذت بجلدي بصعوبة بالغة بعد أن قاتلت بكل قوتي !    خرجت و أنا مصاب بجروح عديدة إضافة لكوني متعباً و جائعاً و أعاني من الأرق ، فلمت نفسي مليون مرة لأنني ضيعت فرصة من ذهب و رحت إلى البحر لأعود عطشاً ، لقد كان الخروف أمامي و عوضاً عن إسكات جوعي الشرير انشغلت بالحديث معه ، أي ذئب عاقل يخوض حديثاً  مع خروف و هو بالنسبة له وجبة عشاء ! .. لقد انشغلت بعد الخراف و التحدث إليها عوضاً عن التهامها و تمزيق شرارة القرحة التي تنتابني ، غبائي و قلة عقلي أذهبا عني كل شيء ، يا أسفاه على نفسي ، فالتهلك الخراف و ليهلك السياج و ليهلك الجوع الذي أذهب تفكيري السليم ، كان هذا هو أعجب ما حدث لي في تلك الليلة السوداء .. 












تعليقات

المشاركات الشائعة