مقهى
عندما احتضن المساء الأجواء، و اندلق الظلام ليلون الأركان ، كان ثمة رجل يسير في الشوارع بلا هدى،
يبدو عليه الضياع و الفتور، إذ أنه لا يكف عن الترنح و الإرتجاف مع كل خطوة يخطوها، و قد
و قد كان وجهه متعباً و شاحباً ، و شعره أسود سواداً باهتاً يكاد يميل للرمادي، كان مجرد
شاب طائش ضل طريقه، و لم يعرف له سبيلاً، لم يعد لهذا المسكين سوى حقيبة ثقيلة يحملها
بكتفه المجهد، و لم تفتأ تزيده تعباً على تعبه، لكنه لم يلقها و يتخلص منها.. لأنها كانت ملتحمة بأعضاءه
بقوة.. و التخلص منها يعني التخلص من الحياة..
راح هذا الرجل البائس يسير و يسير، و يتأمل المحلات المغلقة، و الأصوات المختفية، يتأمل
السكون الذي عم المدينة منذ حلول الليل عليها، و كأن لليل هيبة خاصة تجبر سكانه على الصمت
و عدم البوح و إثارة الضجة، و لكن أين هم السكان؟
لم يرى هذا الرجل أي أحد غيره طوال مسيره، ألعل الجميع نائم في هذا الوقت؟..
و بينما هو يسير بحقيبته و يفكر في هذا و ذاك، إذا به فجأة يتجمد مكانه، و كأن قوة خارقة
حولته لتمثال، توقف جسده عن الحركة، و توقفت عيناه عن الرمش، كانت أنظاره معلقة
بما رآه في آخر الطريق، لقد رأى أضواءً!.. أضواءً جذابة و مثيرة!.. أضواءً يراها لأول مرة!
نسي تعبه حينها.. و نسي إجهاده و عجزه.. لقد ركض بقوة و لهفة في اتجاهها ،
كان كل ما يفكر فيه هو تلك الأضواء التي رآها، من أين أتت يا ترى؟
توقف عن الركض و هو يلهث، ثم رفع عينيه مجدداً ليجد الأضواء لا تزال بعيدة عنه!
عاد يركض مجدداً و يركض و لكن بلا فائدة.. كانت تستمر في الإبتعاد.. كأنها تهرب منه..
أو كأنه يرى مجرد سراب.. أو كأن قوة لا تريده أن يصل إليها..
كانت الأسباب عديدة، و لكن المعضلة واحدة، لماذا لا يمكنه الوصول للأضواء!؟
تسلل اليأس إلى قلبه ليشغل حيزاً أكبر من الدم..
و شعر بالسخط و الانهيار!!.. فجثا على ركبتيه و صاح بدموع :
يا الله!!.. دعني أذق السعادة لمرة واحدة!!.. لماذا لا تحبني!!؟
و ما إن فتح عينيه و أنهى بكاءه و سخطه، حتى رأى أمامه ذلك المقهى الجميل الذي
يشع بالأضواء، رآه أمامه مباشرة و كأنه أتى إليه!.. أو كأنه وصل له ركضاً بدون أن يشعر !..
أو كأن سحراً ما حدث هنا!
تعددت الإحتمالات و لم يكن متأكداً سوى من شيء واحد!.. و هو أن الأضواء صارت أمامه!
سحر المنظر عينيه، و خطف قلبه، لأن رؤية الضوء في الليل لها مذاق
خاص لا يضاهيه شيء!
لم يضيع الرجل الكثير من الوقت، نهض و اقترب من المقهى، و دفع الباب برفق..
ليدخل و يفاجأ برؤية هذا العدد الكبير من الناس، كان المقهى صغيراً من الخارج..
و لكنه واسع من الداخل سعة الفضاء.. كانت هناك أعداد كبيرة من البشر الذين
يتجولون هنا و هناك.. و هم يحملون أطباقاً فاخرة و مغطاة.. كأنه مطعم و ليس
مقهى، و العجيب أنه لم تكن هناك أي طاولات، سوى طاولة واحدة كبيرة..
يجلس عليها ثلاثة رجال.. يتحدثون و يأكلون..
كان هذا المنظر غريباً حقاً.. لاحظ أن جميع الموجودين يقومون بخدمة تلك
الطاولة فقط، و يرتدون ذلك الزي الخاص بالنادل!
شعر بالارتباك مما يراه، حاول أن يتحدث مع أحد هؤلاء الأشخاص العاملين..
و لكنهم لم يكونوا يتفاعلون معه!.. كان الجميع يتجاهله و كأنه غير مرئي..
شعر بالغثيان و السخط، و الغرابة في نفس الوقت!
يتصرفون كأنهم صم بكم عمي؟!.. ماذا يجري؟!
قرر أن يجرب الحديث مع أولئك الرجال الذين يجلسون في الطاولة..
لأنه لاحظ أنهم طبيعيون أكثر..
و ما إن وصل إليهم حتى لاحظ بدلهم و أناقتهم.. ثم ألقى التحية عليهم قائلاً :
السلام عليكم.. هل أنتم زبائن هنا؟
رد أحدهم و قد كان يجلس في المنتصف :
و عليكم السلام.. في الحقيقة لا.. نحن مالكوا المقهى..
تعجب من هذا حتى ظن أنه يسخر منه.. و عاد ليسأل :
و أين الزبائن إذاً؟
ضحك ثلاثتهم فجأة، و كأن سؤاله كان غريباً، ثم خاطبه من رد عليه في البداية :
تفضل بالجلوس أولاً يا سيد.. و أخبرنا من أنت؟
شعر بالاستغراب من رد فعلهم، لكنه لم يكن يملك شيئاً أفضل لفعله، لهذا وافق
على عرض الرجل صاحب البدلة، و جلس على إحدى الكراسي، ثم قال :
أنا آدم.. و أتيت إلى هنا لأرفه عن نفسي قليلاً.. و لكن جميع النادلين يتصرفون بغرابة.. أليس هذا بمقهى؟
رد عليه صاحب البدلة :
بلى إنه مقهى.. و جميع من تراهم حولك هم الزبائن في الحقيقة.. و ليسوا النادلين..
طغى عليه الاستغراب و شحب وجهه، ثم سأل :
من.. تعني بالزبائن؟
أجابه قائلاً :
كما قلت لك.. كل من تراهم حولك هم الزبائن.. إنهم يستمتعون بخدمتنا لدرجة أنهم يدفعون لأجل لذلك..
ضحك ثلاثتهم مجدداً بعد هذه الكلمات، و قد كان آدم لا يفهم شيئاً، كان جالساً بينهم كالأطرش في الزفة،
حتى أنه قرر النهوض لأنه ظن أنهم مجانين أو سكارى ، و لكن ما إن هم بالمغادرة حتى أوقفه الرجل قائلاً :
توقف.. لا تغادر.. سأشرح لك كل شيء..
فكر آدم قليلاً ثم قرر أن يمنحهم فرصة، و عاد ليجلس مجدداً و يستمع إليهم، فخاطبه الرجل قائلاً :
أنا أدعى فيسبوك ميتا.. و هذان هما شقيقاي الصغيران.. انستغرام و واتساب.. و نحن مالكوا هذا المقهى..
شعر آدم بالتشويش قليلاً، كان قد سمع بهذه الأسماء من قبل، فالجميع يتداولها، عاد الرجل الذي
يدعى فيسبوك ليقول :
قد تستغرب من هذا الذي تراه .. و أراهن لك أنه المقهى الوحيد في العالم تقريباً.. الذي يعمل فيه الزبائن..
سأل آدم بحيرة :
لماذا؟.. و كيف؟
رد عليه انستغرام :
إنهم يطهون لنا أفخر المأكولات .. و في المقابل نحن نمنحهم مخدرات من نوع خاص..
شهق آدم بتعجب و صدمة و صاح :
أنتم تتاجرون بالمخدرات؟!!
قال فيسبوك بتوتر من ردة فعله :
لا لا.. لا تسئ الفهم.. ليست مخدرات حقاً.. إنها فقط تفصلهم عن الواقع لبعض الوقت لا أكثر .. و تجعلهم يمرحون و يستمتعون..
في تلك اللحظة حضر أحد ( الزبائن) و هو يحمل طبقاً كبيراً، ليضعه على الطاولة بدون أن يتفوه
بكلمة، كان يضحك فقط بهمس غريب، و لم تكن ضحكته لطيفة، كأنه مصاب بالحازوقة!
لاحظ آدم تلك النظارات التي يرتديها.. و يرتدونها جميعهم.. كل من يعملون..
و لكنه تعجب أكثر عندما رفع واتساب غطاء الطبق الكبير ، و لم يكن هناك أي طعام يذكر! !
كان عدداً مهولاً من الساعات!
نعم.. تلك الساعات الميكانيكية المعروفة!!.. الرجال الثلاثة أمامه بدؤوا يأكلونها بنهم و جوع..
و هذا ما جعله يرتعب!!.. قال له فيسبوك و هو يأكل :
كنت لأدعوك لتشاركنا الوجبة.. و لكنك لا تأكل الساعات صحيح؟
هز آدم رأسه بريبة و قال :
هل أنتم.. جادون ؟
ضحك انستغرام و رد عليه :
بالتأكيد.. إننا نعشق التهام الوقت.. هذا هو غذائنا المتعارف في الأسرة..
ثم أردف على كلامه :
كلما قدمت لنا ساعات أكثر.. كلما جعلناك تمرح أكثر و أكثر.. أعدك أنك ستستمتع إن انضممت إلينا!
حرك آدم شفتيه بهمس :
أستمتع؟
ابتسم فيسبوك بخبث و قال :
سنمنحك نظارة واقع افتراضي vr.. و ستنسى حقيبتك الثقيلة و كل همومك.. هل تريد أن تجرب؟
لبعض الوقت فقط؟..
صمت آدم لثوان.. تيك توك.. تيك توك.. تيك توك..
( هل يعقل أني سأنسى كل همومي؟.. هل سأنفصل عن واقعي؟.. هل سيخف وزن حقيبتي؟
الحياة صعبة حقاً.. و أنا أريد شيئاً يجعلني أنفصل عنها.. شيء يجعلني لا أشعر بهذا التعب
و الضيق.. و ما الضير إن ضيعت بعض الدقائق من وقتي.. هل أوافق على هذه الصفقة؟)
تنهد بعد تفكير ثم قام بهدوء و قال مبتسماً :
أشكركم.. و لكن علي المغادرة الآن.. سأضطر لرفض هذا العرض..
حينها نهض ثلاثتهم فجأة و قد اتسعت أعينهم و ابتساماتهم بشكل مرعب و مريب ، و قال له فيسبوك :
إلى أين يا صديقي؟؟.. لن تخرج بهذه السهولة..
ارتعب آدم و شعر أن قلبه تفتت تماماً من الخوف، ما الذي يجري؟
عاد فيسبوك ليخاطبه :
عليك أن تدفع لنا الوقت الذي ضاع و نحن نشرح لك.. عليك أن تدفعه..
فجأة التف حوله جميع من في المقهى، و بدؤوا يقتربون منه كالزومبي و هم يرددون بصوت واحد :
تيك توك.. تيك توك.. تيك توك..
صرخ بهلع و ركض محاولاً أن يتجنبهم.. و لكن عددهم كان كبيراً!.. لقد كانوا مرعبين
للغاية!!..
بدأ يركض و يركض بسرعة و مناورة، و لكن هذا لم ينفعه، حاصروه جميعهم عند أحد الجدران..
توقف يلهث باستسلام و ظن أنها النهاية، ليضغط بلا قصد على زر كان بجانبه!
و يطفأ كل شيء!!
فيسبوك و انستغرام و واتساب أغمي عليهم تماماً!
أما جميع الحاضرين فقد خلعوا نظاراتهم و هم يستغربون ما يحدث معهم!.. و أين هم؟!
لقد تم إطفاء الإنترنت!
لم يقف آدم طويلاً، بل ركض حالاً و خرج من المقهى بسرعة.. و ظل يركض حتى ابتعد عنه!
ظل يركض بحقيبته الثقيلة و ساعات حياته، لقد ارتعب من فكرة أن يضحي بوقته و ينفصل
عن الواقع ، لقد ارتعب من فكرة التعاطي المزمن، توقف عن الركض و وجد نفسه في صحراء
خاوية.. لقد منحه الخوف قوة و سرعة حتى وصل لهذا المكان المنقطع..
رفع عينيه للأعلى و أخذ يتأمل النجوم و القمر، ثم أدرك أن هذه هي الأضواء الحقيقية..
تأليف وضاحة عبد الرحمن
تعليقات
إرسال تعليق