النرد الأخير
كان الطلاب في القاعة متوترين للغاية، لأن امتحانهم النهائي بعد خمس دقائق فقط،
إنها دقائق قليلة و حسب، و سيبدأ أفظع امتحان في التاريخ، الإمتحان الذي إن لم تتمكن
من اجتيازه ، فسيكون مصيرك سيئاً للغاية!.. ليس سيئاً لذلك الحد، بل أكثر!!
كان الطلاب يتهامسون فيما بينهم بخوف و فضول في الوقت ذاته، اللحظات القادمة
ستقلب حياتهم رأساً على عقب!!.. مصيرهم الآن يقف على خيط رفيع للغاية!!
فُتح الباب العملاق للقاعة، و دخل رجل طويل القامة، يرتدي نظارة مظللة و
بدلة سوداء، على جبينه وشم لهيكل عظمي، و ملامحه مرعبة للغاية، إنه الأستاذ
عادل!.. المدير الأكثر رعباً و غرابة أطوار في العالم بأسره ، يقال أنه درس السحر الأسود،
و العلوم الفلكية و الذكاء الإصطناعي، و الكثير من الأمور أيضاً!.. لكن أكثر ما يعرف عنه
هو أنه مجنون و مريض نفسي، و قد أسس هذه الأكاديمية تحت الأرض، لاختطاف الطلاب
و تعذيبهم بإمتحانات صعبة و غريبة للغاية، إن لم يتمكنوا من حلها فهم لن ينجوا و لن
يتمكنوا من رؤية العالم مجدداً.. أما الطلاب المحظوظون الذين يتمكنون من اجتياز جميع
الإمتحانات يسمح لهم بالرحيل، و لكن ذكرياتهم تختفي تماماً عن كل ما يتعلق
بأكاديمية الموت!
و قد كان هذا الإمتحان النهائي، الإمتحان الذي سيحدد كل شيء، فإما الموت و إما الحياة،
عندما دخل الأستاذ دخلت ورائه روبوتات ضخمة تشبه رجال الأمن، و دخل معهم الخوف
و الرهبة، و كل طاقة مرعبة و مخيفة، كان الرجل متعاقداً مع الجن ليجعلوا المكان غير
مريح عند قدومه، و قد نجح في ذلك بالفعل..
بدأت الطاولات تهتز، و بدأت الأقلام تتطاير في المكان و تصدر أصوات ضحك غريبة
و شريرة، فتح السيد عادل ذراعيه و قال :
من يختار خوض الإمتحان، فليحاول الحصول على قلم، سيبدأ العد التنازلي من عشرة إلى
صفر، بعد انتهاء هذه المدة سيتعين على كل طالب أن يكون جالساً على كرسيه و قلمه
بيده، و إلا سيتم طرده من القاعة، من لا يريد خوض الإمتحان فليأتي و يخبرني منذ البداية!
بدأ الطلاب بملاحقة أقلامهم و محاولة
الحصول عليها، كان كل منهم يركض في اتجاه مختلف!
البعض يقفز فوق الطاولات و البعض يجري كالمجنون، بعض الطلاب فقدو وعيهم من
ضغط الموقف، و البعض الآخر استمر بالمقاومة و المحاولة ، حتى انتهى العد التنازلي!
في تلك اللحظة أطلق السيد عادل ضحكة جنونية، كان صوته بشعاً جداً في ضحكه،
كأنه ديك إبتلع شيئاً و يحاول التقيء!
أعطى إشارة للروبوتات ليقوموا بإخراج جميع الطلاب الذين لا يجلسون في مقاعدهم
و يحملون أقلامهم و يحدقون للأمام، و فعلاً تم التخلص من خمس و سبعين في المائة
من الطلاب الموجودين، و لم يتبق سوى عشرة طلاب فقط.. عشرة طلاب سيخوضون
امتحان أكاديمية الموت النهائي، قد ينجوا بعضهم، و قد لا ينجوا منهم أحد..
قامت الروباتات بتوزيع الأوراق على الطلاب العشرة، و بعد أن انتهى التوزيع و رأى
الجميع أسئلتهم، فوجئوا و ظهرت عليهم ملامح غريبة و مرتعبة!
كانت ثلاثة أسئلة فقط، و لكن كل سؤال كان أغرب من الآخر..
ابتسم السيد عادل و هو يراقب الملامح التي ارتسمت عليهم، كان على يقين بأن أحداً
من هؤلاء المساكين لن يبقى حياً بعد ثلاثين دقيقة من الآن..
" لقد بدأ المرح"
همس لنفسه بفرحة مريضة، ثم قال بصوت جهوري مخاطباً الحاضرين :
" أبنائي و أعزائي.. هذا امتحانكم الأخير هنا في هذه الأكاديمية.. نصف ساعة فقط،
إما الرسوب و إما النجاح، إما الحياة و إما الموت"
أطلق ضحكته القبيحة ثم أردف قائلاً :
" و لا يفكرن أحد منكم في الغش.. لأن هناك شرائحَ إلكترونية مركبة في أدمغتكم، و
و عند مجرد التفكير!.. فقط التفكير.. في الغش!.. ستلتقط هذه الشرائح إشارات معينة
و من ثم ستفجر الدماغ تماماً!!.. و حينها لن يكون بوسعنا سوى أن نترحم على الطالب
الذي حاول الغش !"
تنحنح و هو يوزع أنظاره بين الملامح المذعورة التي يراها أمام عينيه، ثم ختم كلامه :
" و الآن بأمان الله.. فالتبدؤوا و تجربوا حظكم "
بدأ الإمتحان، أو بالأصح فيلم الرعب، تعلقت نظرات جميع من في القاعة من الطلاب
بأوراقهم، و كل منهم يحاول فك شيفرة هذه الأسئلة الغامضة..
كان السؤال الأول هو ( قابلك رجل ضخم الجثة في الطريق، و خيرك أن يأخذ منك أحد
حواسك الخمس، أو أن يأخذ منك جسدك لثلاث و عشرين ساعة كل يوم، أو أن
يأخذ منك عقلك فتصبح مجنوناً، ما الذي ستختار أن تعطيه له؟ الإجابة الصحيحة
هي واحدة و موحدة.)
احتار ( أدهم) أحد الطلاب المساكين من هذا السؤال الغريب، إنه يبدو من أول وهلة
سهلاً، كأنه يسألك عن رأي و تفضيل شخصي، و لكنه في الحقيقة أصعب من ذلك
بكثير، فقد قال أن الإجابة موحدة بين الجميع، أي أن اختياره لشيء يختلف عن
الجماعة سيودي به للموت، حك أدهم رأسه بحيرة شديدة، فالطريقة الوحيدة إذاً
هي أن يتمكن من رؤية إجابات الطلاب الآخرين؛ كي يختار مثلها.. لا لا!
لن يفكر في الغش!
و لكن مهلاً اللحظة!
هل يعقل أن يتفق جميع الطلاب على إجابة؟ ماذا إن أخطأ البعض إذاً؟.. ماذا إن أجاب
كل طالب بطريقة مختلفة، ما هو المعيار لتحديد صحة الجواب ؟
لا شك أنه فخ من ذلك الرجل البغيض!
كان أدهم يشعر بالغيظ و هو يحك رأسه محاولاً التفكير في أي شيء.. أي شيء قد
يقوده لحل هذا السؤال المغفل!
و في طاولة أخرى في زاوية القاعة، كان طالب آخر يدعى أحمد، يحاول حل أحد
الأسئلة الجنونية في الورقة، كان السؤال الثالث، و الذي ينص على الآتي :
( ما هي الطريقة التي ستموت بها؟ محترقاً أو غريقاً؟ الإجابة الصحيحة موحدة. )
كان أحمد قد ترك السؤالين الأول و الثاني فارغين، أملاً بأن يكون السؤال الثالث
أسهل في الحل و أرحم قليلاً!.. و لكن هيهات!!.. إنه كحلم إبليس في الجنة، خبط
أحمد رأسه في الطاولة باكتئاب، لطالما كره الدراسة و كره الإمتحانات و كل ما يتعلق
بها، كان يحلم بأن يصبح لاعب كرة قدم مشهوراً.. كانت لديه أحلام كبيرة
قبل أن يتم اختطافه و رميه في هذا الجحيم، كل ما يتمناه الآن هو أن يحيا!!
أن يبقى على قيد الحياة!!.. أن يخرج من هذا الزنزانة حتى لو أصبح
راعياً يبيع و يشتري في الغنم!!.. لا يهم!!
كانت قاعة الإمتحان منظراً مسيلاً للدموع، بعض الطلاب كانوا يبكون!.. و البعض الآخر
فقد عقله تماماً من هذه الأسئلة، و السيد عادل يراقبهم مستمتعاً و هو يحتسي كوب
قهوة، كان على يقين أنهم جميعاً هالكون لا محالة..
و لكنه لاحظ نظرات مركزة عليه من أحد الطلاب، كان أدهم هو من يطالع فيه بنظرات
متفحصة، و لكنه أبعد أنظاره بخوف عندما رأى أنه قد تمت ملاحظته، ابتسم عادل
بشراسة و برود في آن واحد، و همس قائلاً :
" فلينظروا كما يريدون، لن يعثروا على الإجابات هنا"
لم يكن أدهم من النوع الذي يترك السؤال الذي جهله و يذهب لسؤال آخر، كان مصاباً بوسواس
قهري يجعله مولعاً بالمعضلة و عالقاً بين الشيفرات الغامضة حتى يجد لها حلاً، و لهذا هو منذ
بداية الإمتحان، لم يترك السؤال الأول.. و لم يستطع تركه.. كان عليه تعبئة هذا الفراغ بأي
شيء.. انشغل بالتفكير حتى تمكن من الوصول لإجابة أخيراً!.. لا شك أنها تتعلق بالرجل المجنون عادل!
كيف غاب هذا عن ذهنه!!.. ربما كان يقصد كيف سيكون اختياره هو!؟
أي أن عليه أن يضع نفسه مكان ذلك الوغد عادل!!.. و ستكون الإجابة الصحيحة هي ما ستتوافق مع
شخصيته!!.. كان أدهم سعيداً بوصوله لهذا الاستنتاج!.. و لكن هذا أدخله في معضلة أخرى و أشد تعقيداً،
ما الذي سيختاره عادل؟!
كان هناك طالب آخر يجلس في منتصف القاعة، و تركيزه متعلق بذلك السؤال الذي سيجلطه تماماً!
السؤال الثاني في ورقة الإختبار، و هو : ( من كان موجوداً أولاً؟.. البيضة أم الدجاجة؟.. الإجابة الصحيحة
واحدة و موحدة. ) بدأ الطالب يضحك بهمس و يتمتم : " ما هذا السؤال؟.. لابد أنه يمزح؟!.. لا يمكن
للدجاجة أن تأتي من تلقاء نفسها!.. يجب أن تكون هناك بيضة لتفقس منها!.. و لكن.. و لكن.. من أين أتت
البيضة؟.. من أين أتت البيضة؟) كان الولد يضحك و يرتجف كمن أُصيب بمس!!
بدأ صوت ضحكه يعلو في القاعة، وقف و صاح بدموع و هو يشير لعادل :
"أنت!.. أنت رجل مجنون!!.. و تريد أن تجعلنا مجانين مثلك!!.. ما هذه الأسئلة بالله عليك!!.. الله ينتقم منك!!
.. الله ينتقم من!!.. "
دوى صوت تلك الرصاصة التي اخترقت صدره و أردته قتيلاً في أقل من ثلاث ثوان، وسط دهشة و رعب
من الحضور، ضحك عادل لردات فعلهم و قال :
" ما الأمر؟.. كان يسبب الضوضاء فأسكته كي تتمكنوا من حل امتحانكم بهدوء.. "
نفخ في مسدسه و أدخله لجيبه ببرود و هدوء، ثم عاد لاحتساء القهوة و كأن شيئاً لم يكن ..
بينما كان كل من في القاعة يرتعشون خوفاً من هذا الرجل المجنون، شعر الكثيرون بأن هذه هي
النهاية، و أنهم لن يروا النور أبداً بعد هذا الإمتحان..
انقضى الوقت، و حان ميعاد تسليم الإجابات!!
تقدم روبوت كبير بوجه يشبه مكنسة كهربائية، و قام بشفط الأوراق و هو يسير في ممرات القاعة،
و لم يكن مبرمجاً ليراعي مشاعر أولئك الطلاب الذين لا يريدون تسليم أوراقهم بعد!
قال عادل و هو يتأمل المنظر :
" انتبهوا و لا تتمسكوا بالأوراق، و إلا سيشفط أعضائكم "
و بعد أن تم جمع كل الأوراق، قام الروبوت بتسليمها للسيد عادل، الذي بدأ يتصفح كل ورقة باهتمام
ثم يمزقها و يرميها للنفايات و هو يضحك، يضحك بينما تبكي تلك القلوب الفزعة التي أيقنت
بالموت، وصل عادل لآخر ورقة على نفس المنوال، و لكنه لم يقم بتمزيق هذه الورقة و لم
يضحك، في الحقيقة بدأ يقرؤها باهتمام ثم قال :
الطالبة هناء.. مثير للاهتمام.. تعالي واقرئي هذه الإجابات بصوت مرتفع..
ما إن أنهى عبارته حتى نهضت فتاة طويلة رفيعة تجلس في آخر القاعة، و تقدمت في اتجاه عادل،
ثم تناولت منه ورقتها و قرأت بثقة :
إجابة السؤال الأول : أنا لن أختار أي شيء، سأتصل بالشرطة ليقبضوا على الرجل ضخم الجثة..
أما إجابة السؤال الثاني : لم أكن موجودة عندما خلق الله أول بيضة أو أول دجاجة..
إجابة السؤال الثالث : لا أعلم كيف سأموت، ربما قد لا أغرق أو أحترق.
أهذا كل شيء يا سيدي؟
تعجب جميع الحاضرين من إجاباتها التي لم تخطر على بال أحد، بينما ابتسم عادل و قال :
لماذا كانت هذه إجاباتك يا هناء؟
قالت هناء :
لا أعلم.. أنت سألتني عما سأختاره.. و أنا اخترت..
ضحك عادل ضحكته تلك و قال :
أريد أن أخبرك أنك الوحيدة التي أجابت عن الأسئلة بطريقة صحيحة..
هنا عم الضجيج و جن جنون الطلاب الآخرين الذين بدؤوا بالإعتراض، صاح أدهم قائلاً :
هذا ليس عدلاً!!.. إنها لم تختر شيئاً!!.. لقد أتت بإجابات من عندها!!
خلع عادل نظاراته السوداء و قال :
أحياناً توهمك الحياة بأنها تضع أمامك خيارات معينة، تجعلك لا تدرك ماذا تفعل أو ماذا
تختار، فيتعين عليك هنا أن تفكر خارج الصندوق و تأتي بخيارات أخرى ممكنة، و بحلول
خارج إطار المعتاد، و هذا كان الهدف من هذا الإمتحان..
صرخت إحدى الطالبات بجنون :
أهذا يعني أن هناء هي الوحيدة التي نجحت؟!
ابتسم عادل و أجاب قائلاً :
ماذا؟.. لا لا لا.. لم ينجح أحد منكم!!
صمت الجميع و هم يطالعون في باستغراب شديد، ما الذي يعنيه هذا الرجل؟
أخذ رشفة من قهوته ثم خاطبهم قائلاً :
كان عليكم أن تختاروا عدم خوض الإمتحان.. و لكنكم لم تفعلوا .. و ضيعتم نصف ساعة
من وقتكم في محاولة لحل أسئلة غبية لا تسمن و لا تغني، جميعكم فشلتم في اللعبة .. تهانينا!
تأليف : وضاحة عبد الرحمن
للاسف اتحرقت علي القصة قبل ما تنزليها
ردحذف