الأراضي الأربعة
أليست الحياة بتقلباتها المزاجية و اضطرابات أمواجها شبيهة بروح حساسة تتخبط بين ربيع البهجة و شتاء الحزن ؟ أو أنها تماثل أكثر رواية تحمل في أحرفها و بين سطورها هموم الجائعين و ضحكات الفرحين و دموع الخائبين و شقاء المعدمين ؟ إن الحياة ما هي إلا حكاية تحكي عنا جميعاً في أربعة فصول مقتضبة . تحكي عن سعادة أحدنا و شقاء الآخر ، بسمة أحدنا و دموع الآخر ، إنها الحكاية الأم لكل حكايا البشر و سائر الخلق ، هي القصة العظيمة التي تربط كل القصص معاً تحت شبكة الزمان و المكان و الفكر الخالد ، و ما كانت الحياة لتكون أقل من تلك القصة التي تسربلت كل المشاعر و الذوات و الأحلام و الكوابيس ، و قد خلق الله القلم أولاً و أمره بكتابة قصة الحياة ، قصة الصيف و الربيع و الخريف و الشتاء .
و الفصول الأربعة ليست مجرد تقلبات في المناخ ، و ليست محض أجواء عمياء صماء ، بل إنها الأراضي التي تألفت منها الحياة ، و انفتقت لها مملكة الدنيا كانفتاق خلية بدائية ، و لكنها امتنعت عند أربعة ، فأصبح كل منها موطناً لفئة من البشر ، فأرض الصيف يستوطنها الخشن حاد الطباع و الشقي الذي يكد تحت الشمس في سبيل لقمة العيش . و أرض الربيع يستوطنها الطفل السعيد بسيط الفكر و قليل الهم ، و يسكنها المدللون الحالمون أصحاب الحظ الجيد في حياتهم . و أما أرض الخريف فيعيش فيها المزارعون الذين يرجون رحمة الأمطار و يشفقون من فيضها ، و ليست الأمطار إلا الظروف ، و ليست الظروف إلا ما يسير على هواه سكان أرض الخريف المساكين ، و ما لهم من القوة و البأس ما يؤهلهم لمحاربة سيل هائل قد يجرف أحلامهم و يغرقها . و من تبقى من البشر في هذه الحياة فقد تبقت لهم أرض الشتاء ، هؤلاء هم أكثر الخلق بؤساً و ألماً ، فهم رقيقوا المشاعر و الأحاسيس ، و هم أسيروا الحب و الغرام ، وأحياناً قد يكونون مجرد أناس تثقل عليهم رؤوسهم بما تحمله من أفكار و ألحان متضاربة ، و هؤلاء لم نجد مكاناً نضعهم فيه فنفيناهم إلى أرض الشتاء ، فهي الأرض الوحيدة التي باستطاعتها أن تخفف عنهم حرارة أفكارهم التي تغلي كمياه في القدر ، و قد قال لهم الشتاء تعالوا و عيشوا في كنفي فإني لكم المأوى و المأمن .
و إن سكان الأراضي الأربعة يتزاورون فيما بينهم و يتلاقون و يتعايشون معاً كأنهم من أرض واحدة ، و يتفق أن يشعر ابن الصيف ببرودة الشتاء ، و قد يحس ابن الربيع بحرارة الصيف من حين إلى حين ، و لكن تلك ليست سوى ظروف مزاجية كالطقس المتقلب ، و أما الأرض التي يعيش المرء فيها لا تكون إلا المناخ السيد على صفحات حياته.
.
تعليقات
إرسال تعليق